رابط صفحتنا الرسيمية

» »Unlabelled » قصة قصيرة (الانهيار)/ اياد خضير


 ايــاد خضير/العراق


قصة قصيرة (الانهيار)


وقفَ أمام المرآةِ يتأمّل تجاعيد وجهه النحيل ، بنظّارته السميكة ، أربعون عاماً من التعب والإرهاق ، تركتْ وراءها هذا الكمَّ من التجاعيد ، تحسّس فكيه البارزين بأصابعه ، فتح فمه ،شاهد أسنانه الصفراء التي فقد بعضاً منها والآخر تلِف من جراء تدخينه المستمر للسكائر المصنوعة من التبغ الرديء ، ذي الرائحة الكريهة .
قــــال يخاطب نفسه : لا وقتَ للصداقة ، للحبّ ، ولا للعواطف أيّها الخفقان الصدئ ، فقد بدأ الخريفُ يأكل قِواكَ ويهشّمُ مازيّنته لك ابتسامتك الرعديدة ، ما عطّرته نسائمُ أصحابك المغرورين بما لـــديهم .. فلتتجلّد كما يتجلّد الماء ، فلم تعدْ ترَ ما تجنيه إلّا
باستعمال المجرفة ، وما مجرفتك سوى أظافر سميكة، فلتغرزها إن أردتَ في رقاب مقابليك الذين تغار منهم ؟ اغرزها في رقبتك إن أردت ؟!
الظلام اندسَّ في داخله ، كانتْ نفسه تسكنها الأشباح والهوس ، فيشعر بالضياع ، بالقلق ، غول الصمت القاهر ، تبّاً للصمت الذي ما مات غوله وما نقيتْ مجاريه قالها بحرقة وبصوت مبحوح كأنّه يكلّم أحداً ، لا يعرف كيف وجد نفسه مبكّراً عند باب دائرته ، كان يحدّث نفسه بصوت مرتفع ، لا يعي ما يقول لابدَّ أن أتحدّثَ إليها عند مجيئها ، أن أصارحها ، أعترفُ بأنّي أحبّها ،سمعه أحد الموظفين قائلاً له من هي؟!
قــال : بما إنّنا أصبحنا أصدقاء سأسرّك سرّاً صغيراً .. تعال .. آه لكنّ مأساتي إنّي لا أستطيع أن ألفظ اسمها بهذه السهولة .. المهم لابدّ أنْ أتحدّثُ ، أن أنتزع هذه الكلمات الجاثمة على صدري والتي تكاد تقتلني ، لعلّيَ أجد صديقاً يساعدني في محنتي ، يجب أن ننظّفَ أدمغتنا من هكذا أفكار بعد كلّ فترة ، فالأفكار مثل غبار الشوارع يجب أن تنظف ملابسك وحذائك عندما تعود للبيت بعد كلّ جولة في شوارعنا الهرمة ؟ !
أجابه قائلاً: تأكّدتُ الآن إنّك إنسان مريض ، متعب الفكر والجسد ، أصبحت عجوزاً خرفاً لا خير فيه كيف تجرؤ وأنت في هذه السنّ ولديك من البنين والبنات أن تتحدّث عن فتاة بريئة بعمر ابنتك ؟! مديدة القامة ، وبشرة ناصعة البياض ،وجسد طري ، استحِ على نفسك ! أنظر إلى أصابع يدك المضمورة وأذنيك الطويلتين ووجهك الكالح ، انظر إلى قدميك التي تخطُّ الأرض كأنها مصابة بالشلل فتحيل مشيتك إلى مطبّات تعلو وتهبط .. أيّها الغبي !
قــال: لماذا كشفتُ له سرّي ؟
لماذا تركتُ أسراري بلا أقفال ؟
ربّما يكون أحد أقاربها؟ ..ربّما لاأدري ؟!
في البدء كان ينظر إليها بفضول ، تحوّلت نظراته إلى شهوة عارمة ، انتابته موجة عارمة من الحزن عندما نظر إليها ، صوتها أغنية حزن دافئ .. تملّكته رغبة أن يمسّد هذا الوجه الملائكي الذي يفيض حناناً ورقة .
لماذا أخاف منها ؟! قالها وصرير أسنانه المصطكّة كما في الحروب .
ذهب إلى إحدى الصيدليات القريبة يطلب أقراصاً للشجاعة أو للوقاحة ، نُعِتَ بالمجنون.
قــــال: اليوم ، يوم الحسم ، سوف أكلّمها ، أعترف لها ، لابدَّ أن أنهي هذه المعاناة ، هذا القلق ، سار وراءها ، سمعتْ وقعاً غريباً خلفها أشبه ما يكون بضرب عصاً على الأرض ..التفتتْ بحركة لا إرادية ، نظرتْ إليه باستغراب .
سألته: ماذا تريد ؟!
ــــ كلُّ خير ، على سنة الله ورسوله !
ـــ احترم نفسك ، ولا تسخر من الناس ، وأدارتْ له ظهرها ، أسرعتْ في مشيتها ، كان يتبعها قائلاً: أنا رجل احتاج إلى الرعاية وأنت تحتاجين إلى الحماية ، سيارتي وراتبي وراتبك يكفينا العيش وزيادة.
طفح الكيل ، فارتْ أعماقها حتّى أحسّتْ بغصة أسرعتْ في مشيتها ، تسكنها بقايا خوف ورهبة .
قـــالتْ بارتباك : أنتَ العفونة التي أمقتها ، لا أطيقها .. رائحتك نتنه ورائحة السكائر تفوح من فمك كأنّها غائط حيوان ، إيّاك أن تلاحقني أو تتكلّم معي بهذا الموضوع مرة أخرى .
أسرعتْ في مشيتها إلى مكان عملها تتمتم بكلمات غير معروفة ألبته ، وجلستْ تتوسّط الموظفات .
من بعيد شاهدهما أحد الموظفين ، أحسّ بأنّ شيئاً غير طبيعي يحدث بينهما ، جاءه متسائلاً .
قــــال له : إنّنا نحبُّ بعضنا البعض واتفقنا على الزواج ، ممّا أثار استغرابه ، ظلّ على هذا الحال كلّما توبّخه يقول إنّها تحبّني واتفقنا على الزواج ، كان يحلم بأن تكون زوجته ، أن يغوص في هذا الجسد الطري ، يمسّد شعرها بأصابعه المعقوفة المتعبة ، يتمرّغ بعطرها .
ذات يوم أصاب أحد الموظفين فضول زائد ، فصارحها ، قائلاً بأنّه سمع أنّ حميد يقول بأنّكم اتفقتم على الزواج هل هذا صحيح ؟!
شعرتْ بشيء أكبر من الأسى أو الحاجة إلى البكاء .
قــالت :إنّه يكذب ؟ لا تصدقه .. وإنّني مخطوبة من شاب مهندس واتفقنا على الزواج قريباً .
تسرّبتْ الأيّام سريعاً ، لتأتِ ساعة الخلاص عندما سمع بأنّها سوف تتزوج من شاب وسيم ، انتعل الفشل بدل الحذاء ، ومازال في قاع الدهشة وهو ينظر النظرة الأخيرة إلى خطيبها ، أحسّ بالدوار يشده إلى الأرض ، فتبوّل واقفاً ، سالتْ قطرات منها على بنطاله.
قـــال : أيعقل هذا ؟ !
كيف يجرؤ أن يتقدم إليها ويسلبها مني ؟
لماذا لم أغرق في هذا الجسد الطري ؟
إنّه واهم ومخطئ ،عليَّ أن أقدّم بطاقات الزواج إلى أصحابي ، إلى الناس ،وبأسرع وقت.
ظلّ يكلّم نفسه ، نامي في حضني يا حبيبتي .. امكثي هنا ولا تبرحي مكانك ، لن يأخذك مني أحد.
ارتدى ملابسه التي اشتراها لهذا اليوم ووضع العطر ، تجوّل في الأماكن ، يقدّم بطاقات الزواج ، والابتسامة لا تفارقه ، تارةً يرمي البطاقات على الأرض وتارةً يسلمها إلى أشخاص ، يمشي غير عابئ بالسيارات التي تمرّ بالقرب منه وتكادُ تدهسه فاقد الوعي مسلوب الإرادة.


عن المدون International Literary Union Magazin مجلة إتحاد الأدباء الدولي

مدون عربي اهتم بكل ماهوة جديد في عالم التصميم وخاصة منصة بلوجر
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد