علي البدر \العراق
عرض نقدي لقصة "انفلاش" للقاص مهدي علي أزبين
" لماذا تركتموني وحيدا" تساؤل مشروع حيث بدى مناجياً أعماقه بنبرات يأس، ليغور في أعماقه محاولاً كسر حجب الصمت التي تلفه، وها هو " يحتضن ركبتيه، تتعانق يداه، ينفرد الأبهامان ويدور أحدهما على الاخر..." محاولا لملمة شتات نفسه ليجلس كهيكل بشري محاط بذراعين، ضاماً جسده نحو الداخل ليحول بينه وبين غابة من التشتت والضياع، لكنه ينصاع لحوار داخلي عليه تهيئة أجوبة مقنعة لذاته على الأقل و "ينفرد الأبهامان، يدور أحدهما على الاخر.." مثيرة تساؤلات بأجابات بدت بحاجة لمن يقتنع بها، " يتسابقان، يتراوغان نحو الأمام والخلف..." وها هو يحتضن رمزاً تتلاشى الحياة بدونه. انها تلك الشجرة المتيبسة التي يحاول اعادة الحياة اليها لتورق من جديد ويشعر معها بالأمان.. ، يسقيها من ماء يبيعه ليسد رمقه بثمنه لكن هاجساً داخلياً يمنحه أملاً بأن تلك الشجرة لابد أن تعيش فالماء هنا حياة لشجرته وله أيضا، فيرد على من طلب الماء وهو" يغرق في بحر الوجوم "غير متوفر للأحياء"، وهو " ليست للبيع". وكيف يفرط به والأمل يعيش في أعماقه؟ أجل لابد أن تورق من جديد، فنجده متحفزاً للرد وبثقة و " يطلق لساناً معطلاً" ليقول " أنا أنعم بظلال شجرتي الوارفة.." فها أنا أسقيها وأشعر بالأمان معها. أجل " انها كثيفة ولكن أشعة الضوء تتخللها، تخترقها بكثرة فيهرب الظل." ان الخلل في الظل وليست بالشجرة التي لم تكافئه وتمنحه ظلاً وارفاً. أنه في الحقيقة تبرير justification غاية في الروعة لأحتواءه عمق فلسفي غير مألوف.
ويرتد لواقعه ثانية عندما "تتشابح، تتاكل الوجوه وتختفي من تفاصيل تكوين اللوحة التي عاش لحظاته وسطها" لكن صورة شجرته حاضرة في ذهنه وعندها يزحف نحو بسطته و " ينتل عبوتي ماء" ، أجل ياشجرتي لابد للحياة أن تورق من جديد وتغرد الطيور بين ثناياك، وها هو " يفتحهما بأسنانه، يدلق على الساق الصامتة.." وفي أعماقه صرخة مدوية: هيا تنفسي، تحركي وأعطيني ظلاً وتمايلي مع الريح. لابد للحياة أن تزهو من وسط الركام. وها أنا أتابع " مسارات السائل الهابطة" نحو الجذور وسأسقيك ماء الحياة وأبقى ضمائاً ولتذهب تلك العبوتين الفارغتين "تحت أقدام السيارات" المتسارعة.لابد للنظارة أن تعود ويزهو " الأخضرار في" براعمك. وراح يتلمس لحاء شجرته ليتحسس نقشاَ لذكرى بقايا امرأة نقلته بعيداً وطفل يتوسد كتفها ذائبا بلمح البصر، توسل بها.. سحبها من كتفها لكن نداءاته عجزت عن تكبيل قدميها " بحبال صوته الواهن.." .. لا. لا تذهبي فأنا لا أحب تلك القسوة فيك، وتلك القوة التي "تشد الصغير من يده.." أيعقل أن تغادري وتغور امالي وطموحي في زوايا النسيان؟
و" يصرف بصره عن المرأة.." فلم تثمر توسلاته وتلك اليد التي قبضت " على رمانة كتفها.." فيمد " كف التوسل المغلفة بالحنان نحو الصغير وهو يجاري أمه في اتجاه الغياب، يمسك ذراعه المتحررة، يرجوه أن يتريث ويلتفت اليه ولكن بدون جدوى..وشاء الزمن الا أن يحرمه من نظرة طفل، " يحيي شجرة حياته بنظرة ندية" تنثال عليه شلالاً يغمره، يمده بنسغ الحياة، أو مطراً يجلي الجدب عن روحه المعذبة.." ويصرخ.." لماذا تركتموني وحيداً.." لن أمل أو أجزع. " سأنتظركم من الجانب الاخر.." وهكذا يرجع للحضن الذي يستظل تحته.. و " يقرفص" وتعود الحيرة من جديد وتسري تساؤلات لا بد من تحديها فيبدأ " الأبهامان بالتباري" ويعلو نفس الصوت الذي تحداه ليوقفهما طالباً الماء، فيأتي صدى أعماقه بالنفي وتبدو الحيرة عليه، فقد نفذ الماء ولكن لابد لشجرتي أن تورق... الماء الذي تعيش اسرتي عليه.. وشجرتي التي اطوقها وأتحاور معها كل يوم.. أيعقل أن تموت لتمسح كل امالي وحياتي....لابد أن " أجبر نفسي على جلب الماء من بيتنا الصغير.." ومأساتي.. كيف أواجهها، عندما أفتش بين ثناياه وأسمع بكائه وتعاطفه معي، حيث " غدا مسرحاً لمطاردات الجرذان ومطارحات القطط الغرامية، وأنشأت العناكب مساكنها الشعبية في السقوف والزوايا؟"
ويفاجؤه وجه امرأة " رسم الأرق خطوطاً بألوان العناء على أجفانه المتورمات" ، مستغربة من محادثته لجذع ميت، وياتي الجواب لا يا خالة. أنا لا أحادثه" انما أحاورها" ويأبى الا أن يبقى ملاصقاً لشجرته ومباغتا الجميع حيث " يسور الجذع، يحيطه بأطرافه الأربعة... ينقفل عليها بوله، يلامس فمه وحنكه الساق المضغوطة، يثبت بصره في الأعالي، ويتابع تفاصيل الأغصان المنبثة في صفحة السماء الزرقاء...". لابد من البراعم أن تزهر وتعود الحياة، وتورق الأغصان.. تأمل في عمق السماء وهو ، ينتظر تكور البراعم وتفتحها " لتنبيء بعلامات الخصب.." تعانقت يداه ثانية وتشابكت أصابعه بينما راح الأبهامان يدوران على بعضهما باتجاه واحد." وقد يسمع صوت: ألماء. ألماء، وعندها يأتي الرد.. ليست للأحياء.. وانما لشجرتي هذه.. لابد أن تورق من جديد وأعيش وسط حضنها تحت سقف خال من الجرذان والقطط والعناكب...
وهكذا تتوازن بداية القصة مع نهايتها لتنسجم مع أسمها المشتق من الفعل "فلش"، الذي يدل على التباعد والتشتت spread out . وباعتقادي أن الكاتب القاص مهدي علي ازبين قد بذل جهداً استثنائياً لأنتاج مثل هكذا قصة. وهي بحاجة لقاريء صبور لفك بعض رموزها والغور في العمق الذي تتصف به القدرة الفذة للقاص.. فعندما ينتاب احساس الضياع والتشتت "انفلاش" فأن جلوس الشخص واحتضانه ركبتيه وضمهما بقوة تشير الى أحساسه بالضألة والتيه، فهو ينكمش نحو أعماقه وتكون حركة ابهامي يديه رمزاً للحيرة أحياناً والتي تنتابها تساؤلات بحاجة لأجوبة مقنعة.. ولم يشر الكاتب بأن الرجل جالس على الأرض وانما طريقة الجلوس تحتم ذلك وكانت هذه ومضة flash point تحسب للكاتب ، رغم أنه استعمل لاحقاً الفعل " يقرفص" لتوضيح ذلك.. ان هذه القصة لوحة تشكيلية يدخل الأسلوب السريالي في جوهرها.. فكما الرسام المتمرس الذي لايكتفي برسم انطباعي لا يحتاج لتفكير لفهمه، وانما يدخل رموزا سريالية في لوحته ليعطي المتلقي فسحة من الوقت للتفكير، وهذا من حقه.. والرأي نفسه بالنسبة لقصتنا هذه.. ولكن يبقى التساؤل.. لمن تكتب هكذا قصص وما هي نسبة الذين يقرأؤنها ويفهمونها تماماً؟ وبالتأكيد ان هكذا قصص تعطي الكاتب مبرراً لكتابتها لأنها تحث المتلقي على تعميق ثقافته ومواصلة بحثه.
وقد أجاد الكاتب بربطه بين الشجرة المتيبسة وبين الحرمان العائلي. ان الشجرة رمز معنوي تعكس صبر ووفاء انسان فقد عائلته لكنه يعيش بأمل يومي لا يفارقه.وبلغ حبه لها بأنه يسقيها من الماء الذي من المفترض أن يبيعه. انها اسرته التي فقدها والأمل الذي يرجع حياته الاسرية. وربما كان أجمل ما في القصة رده على استغراب المرأة من علاقته بالشجرة " وصلت حالتك يا ولدي الى محادثة جذع ميت!"، وعندها يأتي الرد غاية في العمق والأصرار وفي غاية الرقة رغم خشونة الحياة التي تحيطه. " أنا لا أحدثها يا خالة، انما أحاورها." نعم فقد ارتبطنا بفهم مشترك لأننا نواجه نفس المصير. انها بنظره رغم تيبسها، انسان له روح ومشاعر. لقد أبدع الكاتب باستعمال اسلوب التشخيص personification وهو اعطاء الأشياء صفة الحياة كالبشر، وأيضا استعمال حركات الجسد gestures . أنها دعوة لنا أن نتشبث بالثقة بالنفس والتفاؤل وأن نضحي من أجل أهداف سامية في زمن نحن بحاجة ماسة اليها..
ألقاص المبدع الأديب مهدي علي ازبين.. أنت مبدع بحق كما عهدتك وأشكرك لأنني قضيت وقتاً ممتعاً مع قصتك.. تحياتي..
ليست هناك تعليقات :