رابط صفحتنا الرسيمية

» » » الفائز الثاني فاطمة الزهراء حرمان – المغرب القصة: نعمة تين


الفائز الثاني
فاطمة الزهراء حرمان – المغرب





القصة: نعمة تين

زهرة ستبلغ العشرين الليلة. غازلة صوف مميزة، أخذت مكان أمها في المجموعة المكونة من نساء القرية المتفاوتات الأعمار. كانت أصغرهن و كان يغضبها كون إناث القرية لا يتعلمون كما يفعل الذكور. و كلما تذكرت أن ما يتعلمونه محصور بعناية فيما جاء به السابقون، تخبر نفسها أن تعلمهم محض تلقين لا غير. هؤلاء السابقون بغطرستهم المعتادة يدعون أن لهم كامل المعرفة التي اكتسبوها من خلف تلك الأسوار العالية و كيف أنهم شيدوها بعناية ليحفظوا نسلهم من تقلبات الأحوال في الغابة و من وحوشها. وﻷنها تؤمن أن الحياة تكسب الإنسان معرفة أعظم بكثير من تلك الدروس كانت كلما مرت بجانب مجمع للتعليم تبتسم و تمضي صامتة.مرت تسع سنوات على تلك الليلة الباردة، ظل حلمها الوحيد أن يأتي يوم ترحل فيه بعيدا عن هذا المكان...أن تجتاز الأسوار العالية، التي تحيط بها من كل مكان. أن تكشف ما ورائها...أن تجري خلف سرب الطيور المهاجرة...أن تهرب من رائحة أبيها العفنة، من البيت المثقل بالأحزان...أن تمحو صورة زوجة أبيها الشابة الحامل في أول طفل لها و التي تبكي كل ليلة من شدة الوجع و الحسرة كونها تزوجت رغما عنها رجلا غير الذي أحبته. كانت توقن أن أباها لا يزال يحب أمها و أنه لم ينسى شكل عينيها...و أن أنينه كل تلك الليالي وحده كان يلف ندما...عرف دائما أنها لا تشبه كل النساء و لكن رحيلها ترك جرحا غائرا في قلبه و رغم الحب كان يمتلأ حقدا.
في اليوم الذي يسبق عيد ميلادها و بينما هي وسط مجموعة النساء، تغزل الصوف بعناية، بدأت إحداهن بالثرثرة المعتادة فأخذن يتكلمن في كل شيء و يفصلن الحديث تفصيلا...كانت مركزة في غزل كومة الصوف و في حديثهن الى أن جاءت إحداهن بالخبر الذي قلب كيانها. وجهت الكلام الى زهرة التي حدقت في وجهها الممتلئ بطريقة مضحكة ثم أحست برغبة جامحة في الانفجار ضحكا لكنها عوض ذلك تجاهلتها و أكملت عملها. فأخذت تخبر النساء عن خبر زواج زهرة القريب الذي لن يصبح سرا بعد أيام لأن ابوها قد قبل طلب صديقه بالزواج منها بعدما فقد زوجته حديثا. نظرت النساء جميعهن الى زهرة في آن واحد، أما هي فقد تصلبت مكانها. تحسرن على صنعتها المميزة التي سيفتقدنها ان توقفت عن غزل الصوف، ثم عدن للغزل من جديد و هن ينمنمن في العريس المستقبلي و في طباعه العنيفة و في زوجته المتوفاة و يتحسرون على شباب زهرة. كل ما كانت تشعر به في تلك اللحظة هو أنها غريبة، غريبة وسط هؤلاء النسوة و وسط هذا المكان الذي اعتادته. شعرت ببرودة تجتاح أطرافها و تشل حركتها و حملها حنين غريب الى ذلك الحضن الدافئ الذي تفتقده كل يوم بشدة و لكنها في هذه اللحظة بالذات تحتاجه جدا و لأنها كانت صبورة و لها ملكة التحكم في عواطفها و حجب ما تشعره، أكملت عملها من دون ان تنطق بكلمة و هي تشعر بعواصف تجتاح خاطرها.
كانت تعلم أنه سيتخلى عنها إن جاءته الفرصة للقيام بذلك، فهي عبء من ماضي يرجو نسيانه...لم تنتظر منه اعترافا لكونها حلت محل أمها و أجلت طفولتها لتبدي للناس أنها راشدة مسؤولة.أخفت لسنوات الفتاة المتمردة التي بداخلها و رغبتها الجامحة في أن تثور على كل ما يحيطها خلف سكوتها الدائم و ربطة شعرها المهذبة التي لم تغيرها أبدا. احتملت غطرسة الناس و الأقاويل التي كانت تتناقل على ألسنتهم عن هروب أمها...لم يكن أحد يعلم الحقيقة غيرها...و كانت في كل مرة تتراجع عن صفعهم جميعا، صارخة الحقيقة في محياهم...تدفنها و تخفيها بعناية في صدرها...عالمة أن ليس فيهم أذنا جديرة بالإصغاء و لا عقلا قادرا على الفهم والاستيعاب.لم ترغب في العودة الى البيت فهي ليست قادرة على ان تنظر الى تلك العينين...مضت الى كوخ العم عاصب. كان يجلس عند باب كوخه...قبلت جبينه و جلست بجانبه ساكتة كعادتها مرت ريح باردة جدا حركت كل أحاسيسها و زادت من أحزانها، فوضعت ثقل رأسها على كتف العم عاصب الذي تبسم و هو يمرر يده على وجنتها الباردة و ظلا صامتين...كانت تراقب المطر يتساقط على حديقة العم العاصب و تبلل كل جزيئة منه التراب... لم تكن تفكر في شيء، فقد اتخذت القرار الذي لا رجعة فيه.
عندما سكن الليل عادت الى البيت و قاد نام كل من فيه...تسللت الى السطح و افترشت لحافا صوفيا قديما كانت تحتفظ به. كان الجو باردا و الريح تحمل رطوبة الشتاء. فتحت ربطة شعرها، و تركته ينزل على وجهها ليغطيه تماما، رفعت خصاله و نظرت الى القمر و قد اكتمل...و الى السحاب الذي يجري في السماء خفيفا بعدما ألقى بما يحمله من ماء.
تذكرت أمها و قد افترشت نفس اللحاف في ليلة شتاء باردة في يوم جادت فيه السماء بمائها على القرية بسخاء. منذ زمن بعيد يبدو قريبا بطريقة غريبة. استلقت عليه و وضعتها وهي صغيرة على صدرها و جعلتها لا ترى شيئا سوى السماء، و همست اليها:" إذا تعبتي يوما يا زهرتي...من الناس...من صراخهم الذي يعلو و يقتحم البيوت دون إذن أصحابها...اذا مللت يوما من رؤية تلك الأسوار و شعرت بنفس الأسى الذي أشعره أنا الآن...افترشي أي شيء و قابلي السماء...في السماء لا توجد أسوار شاهقة...في السماء لا يجري الناس وراء تحقيق شهواتهم، مقنعين أنفسهم أنهم بذلك يحققون ذواتهم...أقنعونا أن ما وراء الأسوار يجب أن لا نحاول معرفته و ان لا يهمنا...اننا هنا محميون بفضل أولئك السابقون الذين شيدوا هذه الأسوار لحمايتنا ليظلوا هم الافضل و ذريتهم و نشهد لهم نحن و من ذريتنا بذلك. توارثوا أفكارا و جعلوها حقيقة لا جدال فيها...و جعلونا نخضع لها بإعتراضهم عن مناقشتها. سئمت من أن أرى نفس الأشياء و أسمع نفس الآراء...سئمت التشابه الذي يجمعنا...سئمت نفسي التي تختنق في فضاء واسع و تأنبني أنني أسجنها.
في هذا المكان لا يتغير شيء سوى لون السماء...الناس هنا استعبدتهم الحياة...فهم يسعون خلف ضمان راحتهم لسنين عديدة...سنين لا يعلمون إن كانوا سيعيشونها. أما أنا فأنظر الى السماء حيث يجري السحاب على مهله لخدمتنا و خدمة من يحيى على باقي الأرض التي تحيط بنا...انا اريد أن أرى الغابة المخيفة التي يتكلمون عنها...أريد ان أرى تلك الحيوانات الضخمة التي تأكل الانسان...اريد أن المس منابع المياه الغجرية بيدي و ان اعدو و اركض كطفل في فضاء واسع خلف الطيور الهاجرة...أنا أريد أن أحيى لا أن أعيش...أريد أن أحضن الحياة، ان أحيى فيها، معها و ضمنها.
يا حبيبتي...تذكري دائما أن السماء عندما تمطر لا تمطر ماء، بل تمطر جواهرا. كنا نخرج نجري ورائها لنلتقطها و نحن صغار كنا أعقل بكثير من الكبار، كنا نقدر العطاء بقلب الطفولة البريئة. فالسماء لو كفت غيثها لذبلت الأرواح؛ فالماء يأتي ليطهرنا...ليحيي فينا ما نظنه انصاع لقساوة الأيام. لا يوجد إنسان لا يتأمل باندهاش الصبا و لو سهوة منه جمال المياه و هي تنغمر دون انكفاف من بين السحاب...المطر تحية السماء الى الأرض...الحب هو السماء التي تظلنا و تمدنا بالعطاء و تدفئنا دونما مقابل.زوجوني و أنا صغيرة، لأنهم رأوا أنني الاختلاف الذي يتعبهم.حسبوا أنهم سجنوني عندما ربطوا جسدي بانسان آخر. لم يفهموا يوما أن روحي حرة، و أنه تحت أضلعي التي تكسرت مرارا من محاولاتي اجتياز السور، يكمن جناحان عظيمان. لم يكن شيء ليبقيني هنا كل هذا الوقت الا أنت. و انا حامل بك كان بطني ينتفخ و قواي تخر لتحيي أنت...كنت أستشعر نشوة لا مثيل لها و أنت تتحركين في أحشائي...و أسمع صدى همساتك المبهمة يتردد داخلي. نذرت عشر سنوات من عمري لأراك تكبرين. أوصيك أن تبقي قلبك، قلب طفلة كما انت الان و ان تحافظي على شغفك بمعرفة كل ما يحيطك كما انت الآن. يا ريتني أستطيع أخذك معي...ستبقين هنا لأنك في هذا السن لا تحتاجين سوى للأمان. أما أنا فأحتاج أن أبحث عني بعيدا عن هنا.ستكبرين وسط هذه القيود و سيكون لك الخيار، بين أن تستأنسي بهذه الأسوار أو ان يبقى شغفك الطفولي بالمعرفة حيا ليدفعك الى اجتيازها. أعلم أنك لن تلوميني لأنك ستكونين يوما مثلي...امرأة بقلب طفلة تعلمت للتو الوقوف على رجليها، يجذبها كل ما يمنعونه عنها... يحزنني كثيرا أن ارحل من دونك يا صغيرتي و أعدك أنك ستظلين معي في طيات قلبي و ذاكرة روحي."كل هذا الكلام يملأ أذني زهرة وتحفظه كما تحفظ تقاسيم وجه أمها الهزيل منذ أن نامت على صدرها تلك الليل وهي تسمع هذا الكلام و استيقظت لتجد نفسها وحيدة على نفس السطح فوق نفس اللحاف و قد رحلت أمها بعيدا من دون رجعة.دمعة واحدة نزلت على خد زهرة و قد غمرها احساس بالغربة في مكان تعرفه ويعرفها. ضمت ركبتيها لصدرها و نامت و القمر ينعكس في محياها. استيقظت و قد عم نور الصباح المكان و طارت العصافير بعيدا في جو السماء...اليوم أكملت العشرين...قامت وجمعت شعرها وابتسمت الى السماء وهي تردد :" جاء موعد رحيلي".
كانت تفكر في الهروب منذ أن استوعبت أن أمها في تلك الليلة كانت تنقش في ذاكرتها رسالة الوداع. زهرة عاشت ما عاشته أمها. و أحست اختلافها عن الآخرين...لن ترضى أن يزوجوها و يتخلصوا منها كقطعة أثاث لا تسوى شيئا...لن تدفن نفسها هنا. فالعالم الذي يحاولون الاستغناء عنه ينبض خلف تلك الأسوار، كانت أذكى من أن تبدي لمجموعة من المتشابهين ما تفكر فيه، لذلك كانت تظل صامتة.اخذت اللحاف و نزلت الى بهو البيت قبل أن يستفيق من فيه و استلقت على الأفرشة الملقاة على الأرض. و ما هي إلا دقائق حتى سمعت خطى أبيها وهو يغادر البيت، كانت تتمنى أن تودعه...و كانت توقن أنه سيشتاق اليها كثيرا لكنه سينسى. سينسى أن يشتاق اليها و هو يلعنها كما لعن أمها طويلا...سينسى أن يشتاق اليها. قامت بكبرياء يأبى أن يترك عيناها تفيضان دمعا...و أخذت اللحاف الصوفي و وضعت وسطه كسرات من الخبز و جرة ملئتها بالماء...وضعت الحبال المصنوعة بعناية و سكينين...جمعت العدة و خبأتها وسط أكوام الصوف و هي تسمع شخير زوجة أبيها الغارقة في نوم عميق. حضرت الفطور و كنست البيت ورتبت كل فوضى كانت تعم زواياه و لبست ملابسها و ربطت شعرها، و عندما استيقظت زوجة أبيها كانت زهرة قد غادرت البيت لتأخذ مكانها وسط النساء غازلات الصوف.
السماء صافية لا غيوم فيها، انقضى النهار الشتوي القصير لتعود زهرة دون ان تمر على العم عاصب...لم تستطع ان تذهب اليه فهي لن تقوى على فراقه و كانت تخشى ان يجعلها لقائه تعيد النظر في الرحيل. بعد ان رفضت ان تأكل العشاء الذي حضرته لهم و ظلت ناظرة الى الآنية الطينية وهي تسكبه متفادية النظر الى عيني ابيها، شعرت بكثير من الأسى كون لا أحد تذكر ذكرى ميلادها... القت بنفسها على بعض الأفرشة بجانب كومة الصوف و انتظرت الى ان خلد الجميع الى النوم. عندما سكنت كل حركة في البيت و خيم صمت رهيب على المكان، قامت من مكانها و تسللت الى خارج البيت بعدما استخرجت الحقيبة الصغيرة و ارتدت زيا رجاليا لأبيها وقبعة صوفية سوداء دفنت شعرها بعناية داخلها و حذاء صنعته لنفسها. خرجت تتسلل على ضوء القمر الذي انار عتمة تلك الليلة.
كانت تحفظ دروب القرية بعناية و تعلم أنه في ليلة باردة كهاته لا يبقى سوى العم عاصب جالسا في صمت الليل ساكن الحركة أمامه الحطب المشتعل ذو الرائحة المميزة و هي تمر من أمام كوخه المهترئ وجدته في نفس موضعه...أرسلت إليه قبلة في الهواء صامتة، و كأنه رآها تمر وكأن القبلة حطت على خده... قام من مكانه و رفع يده و حياها ظنا منه أنها على يمينه لكنها كانت أمامه لا يفصلها عنه الا بضع خطوات...تتأمله و تجمع من محياه و من رائحة الحطب ما تستطيع التزود به لرحلة لا تعرف ما مصيرها فيها.
العم عاصب كان في مقام الأب لزهرة...كانت تجري اليه كلما ضاق بها المكان و اشتاقت لذلك الحضن الدافئ الذي رحل وتركها وسط هاته الأسوار وكلما أحست أنها تختنق...لتقبل كفيه المتجعدتين و تنام عليهما...أخبرته أنها سترحل يوما ما بعيدا عن هنا لأنها تشتاق أمها كثيرا و انها على يقين أنها على قيد الحياة في مكان ما خارج هذه الأسوار و لا تعرف كيف ستصل إليها و لكن الشوق إليها يقتلها. و كانت تخبره أنها إذا رحلت لن تشتاق لأحد سواه، ولأنه لا يتكلم بكى فقد كانت عيونه و كلماته و الشيء الذي ينير عتمة أيامه.
عندما التفتت خلفها رأت النيران المشتعلة عند كوخ العم عاصب و قد أصبحت بعيدة. على ضوء القمر المنير، استخرجت زهرة السكينين و أخذت تحفر و تضرب بكل قواها أسفل السور بعد أن أزاحت الصخرة التي ربطت عليها خيوط الصوف البيضاء. كان في ذلك المكان نفق صغير علمت عن تواجده من العم عاصب الذي ما كف يشتكي اليها من أرانب برية يجد آثار أسنانها في خضروات حديقته و تأكل كل ما تجد أمامها...كان يخبرها متحمسا أنه تتبعها ذات صباح الى أن بلغ السور و سمعها تحفر في الأرض و تنزلق بعيدا و ضحك ضحكة عريضة و هو ينفخ فمه ليعبر لها عن مدى ضخامتها فقد أمسك أرنبا و كان ضخما جدا فقضم يده و قفز من عليها. ضحكت و قبلت يده. و لأنها تعلم أن سمع العم عاصب يختزل جميع حواسه التي حرم منها، ذهبت تبحث في السور و أمضت أياما وهي تبحث الى أن وجدت الحفرة الضيقة التي كانت بداية نفق لم تكن لديها أدنى فكرة عنه، لكنه كان واسعا كفاية لتتمكن من المرور عبره.
عندما قررت الرحيل لم تكن تعلم عن منفذ سواه. ضربت بالسكينين الأرض، و لما بلغت مدخل النفق أخذت ترمي بالتراب المتكدس عليه و أرجعت السكينين إلى الحقيبة و أغلقتها و ضمتها الى صدرها. أخذت نفسا عميقا و دفعت برأسها الى الأمام، كان النفق ضيقا جدا و مظلما...دفعت بجسمها إلى الأمام معتمدة على يديها الهزيلتان و رجليها...كان جسمها يحتل مساحة النفق...دفعت بجسمها كدودة أرض تزحف بين الأحجار...حتى بدأت تشعر بضيق لا يطاق و بانعدام الهواء...و تزايدت دقات قلبها حتى شعرت أنه سيغمى عليها واجتمعت على جبينها حبيبات ماء. حاولت التغلب على ضعفها الذي لا جدوى منه و بينما هي بين النوم واليقظة، أحست برعشة تجتاح صدرها و دبت في جسمها حرارة شديدة فدفعت بجسمها إلى الأمام بقوة حتى تمزقت الكنزة الصوفية الرجالية التي كانت تلبسها و أحست بألم شديد في كتفها...لكنها رغم ذلك واصلت الدفع طويلا حتى أحست برطوبة شديدة في النفق...تنهدت راجية ان تكون قد اقتربت من آخره. أكملت الاندفاع إلى الأمام حتى وصلت إلى آخر النفق، فهبت ريح قوية على وجهها. أخذت نفسا عميقا و رمت بالتراب الذي ملء أنفها و استسلمت لبرودة الجو نائمة في طمأنينة لم تشعر بمثيلتها وسط فضاء لا حدود له.قطرة ماء نزلت على جبينها أيقظتها...كان صباح يوم جديد قد حل. فتحت عينيها بصعوبة شديدة و نظرت الى السماء فبدت بعيدة، كان رأسها خارج النفق و باقي جسدها داخله...استوعبت بصعوبة أنها خارج القرية...و أنها في جزء آخر من العالم. أغلقت عينيها من جديد محاولة التأكد من أنها لا تحلم، لكن الآلام في كتفها كانت لا تطاق، ففتحت عينيها و توجعت في صمت و هي تخرج باقي جسدها من النفق.
أخذت تلمس أطرافها و كأنها ولدت من جديد...و تمسح على رأسها و تمرر يدها على محياها كأنها تتأكد أنها هي...و ضحكت ضحكة عريضة وهي ترفع عينيها بعيدا في الغابة التي لا حدود لها و إلى الأشجار العالية التي تملء الفضاء و تحجب الرؤيا. حاولت النهوض فسقطت ثم حاولت فسقطت ثانية...فتنهدت و فكت ربطة شعرها و ابتسمت و هو ينزل على محياها...و بقيت متربعة عند مخرج النفق لا تعرف أي الأحاسيس يختلجها... فألقت بجسدها على الأرض و غفت...وهي تخبر نفسها أنها فعلا خارج الأسوار.أيقظها من غفوتها أشعة الشمس التي تسللت عبر الأشجار العالية جدا، ففتحت عينيها من جديد بصعوبة شديدة و أحست بألم في رأسها و تألمت من الجرح على كتفها كثيرا وتمنت لو أنها نامت و لم تستيقظ، فلعنت هاته الفكرة و التفتت الى السور العالي و قد أصبح أبشع...فضحكت كثيرا و أخذت الحقيبة من على الأرض و ضمتها الى صدرها و استقامت على ساقيها وأخذت تمشي بخطوات متتالية رغم أنها لا تقوى على ذلك مع كل تلك الالام التي كانت تشعرها.
الأشجار تملأ المكان و لا تبدو للغابة نهاية. لم تفكر و لو للحظة في أهل القرية و لا في أبيها...لم تفكر في شيء فقد كانت في غمرة النسيان، تحاول أن لا تفكر في ما مضى وأن لا تفكر أيضا في ما سيأتي. كانت تشعر أنها حرة كالأشياء على طبيعتها.
تمشي بصعوبة في الوحل الذي يملأ المكان و يعيق قليلا حركتها. أخذت تمشي و تنظر الى كل الجمال الذي يحيطها بأعين متسعة من الاندهاش.
واصلت المشي الى أن سمعت خرير مياه بعيد، فأحست بعطش شديد. التفتت خلفها لترى أن السور لم يعد ظاهرا و أنها ابتعدت جدا و كلما ابتعدت، ابتعدت فكرة الرجوع إلى ما ورائه ثانية. كانت بين فينة وأخرى تأتيها فكرة العدول عن كل هذا الجنون، لكنها في كل مرة تلعن الفكرة و تخبر نفسها أنه لا عدول عن هذا الجنون.
أخدت الحقيبة و فتحتها و استخرجت قارورة الماء الطينية المغلقة بعناية و ارتوت وأعادتها مكانها وسط اللحاف الصوفي و شمته طويلا قبل أن ترجعه الحقيبة و تغلقها...و تابعت المشي . على صوت المياه الذي يملء هواء المكان وأصوات العصافير التي طارت بعيدا و أخرى سكنت الأشجار، أخذت تمشي منتشية من الفرح و الوجع، حتى أصبح ساقيها لا يقويان على حملها. جلست أسفل الشجرة و نظرت من حولها...كان جرح كتفها قد كف عن النزيف و لم تعد تشعر بالألم من شدة التعب، الشمس مستقرة في السماء. قررت أن تغفو قليلا، فنامت...نامت طويلا و عندما استيقظت كان الظلام قد حل...فتحت عينيها و أغلقتها...ثم أعادت فتحتها...فلم ترى سوى الظلام في ليلة معتمة جدا. كانت ممددة على ظهرها و قد أفلتت الحقيبة من صدرها...فسرت في جسدها رعشة، مزيج من الخوف والبرد. مدت أناملها و هي ترتعش لتلامس الأرض من حولها...بلغت اناملها شيئا بجانبها، فأخذت تتأكد من شكله و عندما عرفت أنه حقيبتها جرتها اليها بسرعة وضمتها الى صدرها ثانية و ضمت ركبتيها إليها و التصق ظهرها بالشجرة الى أن أحست بالألم في كتفها من جديد. ظلت تتمنى أن يسرقها النوم و يأخذها بعيدا، الريح باردة تداعب أغصان الأشجار التي اختفت في الظلام...كان صوتها و هي تتحرك وسط الظلام مخيفا جدا و كلما رفعت أعينها في السماء لا تلمح سوى الظلام، فأغصان الأشجار كثيفة أخفت حتى سواد السماء. ظلت ركبتاها ملتصقتان بالحقيبة المضمومة الى صدرها إلى أن سرقها النوم و رماها بعيدا جدا، كانت تركض في فضاء ضيق و تضرب برجليها الحافيتين على الأرض فيتطاير التراب و يعم الغبار المكان و تختفي وسطه فتختنق و لا تقوى على الصراخ، فتلمح طيفا يمد لها يديه لتمسكهما و تحاولان جرها، لكنها لا تقوى على الحركة.
قفزت من مكانها أسفل الشجرة و قد اختنق صدرها فأخذت تسعل بشدة، فتحت عينيها لترى أن الصباح قد جاء...وتحول الظلام الى نور عم الأرجاء...و صوت الماء البعيد اختفى مع هبوب الرياح القوية التي ترفع و تبسط على هواها أغصان الأشجار. لمست جرح كتفها و قد جف فأخذت بعض أوراق الأشجار المتساقطة على الأرض و ضمدته و استقامت على ساقيها بصعوبة و هي تستخرج من الحقيبة بعض الخبز و الماء. كان شعرها المنسدل على وجهها و عيناها السودويتان يجعلونها غجرية شديدة الجمال. أخذت تمشي في الغابة و الرياح قوية تدفع بها في كل الإتجاهات وهي لا تحاول مقاومتها و الأغصان التي ترتفع وتهوي ثانية تحجب تقريبا السماء...لا تشعر بشيء و لا تفكر بشيء...كانت تعلم أن النهار قصير و أن الشتاء قد تهطل في أي وقت...فسارعت من خطواتها و بصرها يجوب المكان.
عندما بلغت هضبة عالية لمحت من أعلاها بعيدا لمعانا شديدا في مكان لا تغطيه أشجار. أخذت تجري على سفح الهضبة و كلما كانت تقترب، تتوضح لها صورة كالخيال. عندما بلغت مجرى مياه صافية، ليست له بداية ولا نهاية. أشعة الشمس التي استطاعت أن تنفذ من بين الغيوم الرمادية تجعلها تبرق كالألماس. نظرت اليها فانعكس فيه محياها الذي حجبه شعرها الكثيف، رفعت خصاله و نظرت إلى وجهها و ظلت ناظرة الى نفسها مطولا و هي لا تشعر بشيء...جاءتها رغبة غريبة في البكاء. غطت محياها بأناملها بعدما افلتت الحقيبة وأخذت تبكي و هي تنزل على ركبتيها...بكت طويلا و صرخت في وجهها...كانت تعود اليها مشاعر الطفولة، ذلك الضعف و الحزن و الاشتياق الى حضن أمها. كل تلك الدموع و الغضب و الرغبة في الصراخ عاليا الذين حبستهم لسنوات داخلها انتفضوا الان. لم تعد تستطيع أن تبقي كل هذه الاحاسيس داخلها أخذت تبكي حتى وهنت قواها. لما استنفدت كل تلك المشاعر السلبية التي اختزنتها طويلا، استرخت في سكون.
أصبح الجو أشد برودة و هكذا يكون عندما تقترب الشتاء من نهايتها لتترك الربيع يزهر من جديد. نظرت الى كتفها المجروح. المعطف الذي ترتديه ممزق من جهته اليمنى ما جعل كتفها الحديث الجرح يلتأم بسرعة. لقد أصبح عقلها أقل تشوشا و كأنه استوعب اخيرا أنه و الفتاة النحيلة التي تحمله خارج تلك الأسوار.جلست تراقب مجرى المياه عندما بدأت السماء تمطر مطرا خفيفا ثم اشتدت قوة تهاطله، فأسرعت نحو شجرة عالية و احتمت بها لكنها أيقنت أنه مع نهاية النهار ستكون قد بللت بالكامل.
خطرت لها فكرة الصعود إلى جذع الشجرة. أدخلت الحقيبة تحت ملابسها و همت بتسلق الشجرة وعندما مدت يدها فتح جرح كتفها من جديد فقاومت الألم و زمت فمها وهي تتسلق إلى أن بلغت الجذع فرمت بنفسها عليه و أمسكت كتفها الذي أصبح ينزف كثيرا. الجرح الذي التأم، اصبح اوسع الان. جلست على الجذع وأخذت تقطف بعض أوراق الشجرة و وضعتهم عليه. استلقت على ظهرها و فوق جذع الشجرة السميك نزل شعرها المجعد خلف رأسها، تنهدت و هي تتأمل علو الشجرة و كيف أنها تحجب السماء. كانت بعض قطرات الماء فقط تتمكن من العبور عبر أغصانها السميكة. نسيت ألمها مع النسمات الباردة التي هبت واسترخت فنامت في هدوء على صوت المطر.أيقظتها أصوات أنفاس مرعبة. كان الظلام قد حل فاختفى كل ما يحيط بها، كأنها قذفت في الفضاء. ظلت مستلقية على ظهرها و خفضت تنفسها و أغلقت عينيها بشدة و كأنها تتمنى ان لا تفتحهما ثانية. ترجت رحمة معينة، تأخذها من هناك و تصم أذنيها. وفي الوقت الغير المناسب، استعاد عقلها كل ما كانت تسمعه عن المخلوقات المتوحشة التي تحمي الأسوار القرية منها، فلعنت الفكرة لمئات المرات وهي تضغط على عينيها. وترجت من جديد رحمة معينة، تنسيها كل شيء. في السواد الذي غرقت فيه و هي تحكم إغلاق عينها ظهرت عينا أمها السوداويتين اللتان تتسعان عندما تبتسم و سمعت صدى صوتها وهي تردد اسمها، استعاد عقلها شريط طفولتها و قبولات أمها و الحكايا التي كانت تخبرها إياها و الكنزة الصوفية الحمراء التي صنعتها من أجلها في عيد ميلادها العاشر. رأت تلك الابتسامة الساحرة و كأنها لم تفارقها يوما...جعلتها تسترخي من جديد و غفت دون أن تشعر.
عندما فتحت عينيها كانت السماء قد استعادت زرقتها. لم تقوى على النهوض من على الجذع لكنها استجمعت قواها و رفعت رأسها بصعوبة و تفحصت كتفها المجروح ، كان الدم قد جف لكن الجرح لا يزال طريا. وضعت راحة يدها عليه و ضغطت جيدا كان الوجع الذي سرى في كل جسدها يكفيها لأن تبكي و لكنها لم تفعل. دون أن تفكر نظرت إلى أسفل، أغمضت عينيها و قفزت من على الشجرة. عندما فتحتهما نظرت من حول الشجرة كان عليها ندوب مخالب عميقة و قد اختفى الدم الذي نزل من على كتفها، تم لعقه و لعق التراب الذي سقط عليه.
مشت إلى النهر وقد غطى الوحل قدميها. غسلت يديها و وجهها و نظفت الجرح و حملت بعض التراب المبلل و وضعته عليه و جمعت خصال شعرها. تنفست بعمق، فتحت الحقيبة...لم يبقى فيها إلى فتات الخبز...ملئت القنينة بالماء و قررت أن تبتعد عن النهر لأنه ليس بالمكان الآمن، فمن يسكن هذه الغابة سيأتي ليرتوي منه. ثم مشت وسط الغابة من جديد، مشت لأيام، كان النهار فيها قصيرا والليالي طويلة و موحشة، تتبع على بعد مسافة مجرى المياه.كانت لأول مرة تراقب كيف تتحول الفصول، فبعد أن كانت الرياح لليالي طويلة شديدة البرودة، أصبحت الآن أدفى. وأصبح النهار أطول و تفتحت الورود البرية و ملء العشب الارض بعد ان كان يكسوها التراب .
لم تكن تعرف عدد الأيام التي أمضتها في الغابة، فالزمان بالنسبة لمكان شاسع كهذا لا معنى له. مكان فيه كل شيء على طبيعته، حر كنسيم الهواء، كالمشاعر الصادقة الأولى قبل أن تصيبها الخيبات.
في كل ليلة تنامها وسط الغابة، تخبر نفسها قبل أن يسرقها النوم أن احتمال أن تعود إلى الحياة يساوي احتمال عدم العودة، كما هو الشأن لكل المخلوقات، و لكنه هنا يصبح أكبر. عزاءها انها عاشت ما كانت ترغب طويلا في أن تعيشه، وعبرت كل تلك الطرق التي أخبروها أنها ملغومة، مرت من عليها و لم تقتلها بل جعلتها أقوى...جعلتها تعرف نفسها، تعرف ضعفها وقوتها.تغذت على الأعشاب و الفواكه البرية التي لم تعلم عن وجودها من قبل، و قاست من أوجاع بطنها ليال عديدة و تقيأت مرارا سموم ما أكلته. صبرت على جرح كتفها حتى التأم و بقيت وشمة حمراء مكانه. جرت و ضحكت و بكيت و كلمت نفسها و كلمت عصافير الغابة و تأملت أشكال مخلوقات لم تعرف اسمها...كانت تراقب قطعان تلك المخلوقات تمر وهي أعلى الشجرة و تحصي عددها و تتأمل جمال صغارها.
في كل مرة تدنو فيها من النهر المتدفقة مياهه دون انقطاع تحرص على تنظيف نفسها بعناية...و إذا ما لمحت من بعيد مخلوقات ترتوي تتراجع في سكون و تختفي خلف الأشجار.
حينما أصبحت الليالي أقصر واصبح النهار اطول...كانت تشتد الحرارة جدا و تزيد حاجة جسمها للطاقة. لكن الغداء وسط الغابة قليل جدا. ظلت تقتات على بعض الأعشاب و فاكهة برية قليلة...أخذ وزنها بالنقصان حتى أصبحت وجنتاها حفرتين في محياها و لكن ذلك لم ينقص من جمال عينيها.
لم يكن الجو الحار يساعدها على المضي طويلا وسط الغابة...كانت في كل مرة تمشي قليلا، تشعر بارتخاء في كل عضلاتها. الجوع الذي يعتصر أحشائها يجعل تفكيرها مشوشا. يهيئ إليها مرات عديدة أنها تتحدث الى العم عاصب و تعاتبه أنه لم يأتها كما يفعل كل مرة بأول فاكهة قام بجنيها فيعتذر إليها و يرجوها أن تسامحه و يقبل وجنتيها...لكنها كلما استفاقت من هذيانها تتذكر أنه كان أعمى وأبكم. تتذكر كيف كانت تتقاسم معه الفاكهة التي تجنيها من حديقته، فتأخذ يده و تضع في راحتها النصف الآخر و تمدها إلى فمه...كانت تلك المواقف تأسر قلبها في وحشة هذه الغابة فهي لن تراه مرة أخرى. في صباح يوم اعتدلت حرارته، استفاقت مثقلة بالحنين. ان ماتت هنا لن يحزن عليها أحد، لن تكون فارقا في حياة أحد. و ستمضي أيام الغابة و لياليها من دونها...ربما أمها مرت بنفس هذا...او مرت بنفس هذه الخطى. كان توقن أن أمها حية في مكان ما. لن تجمعهما الحياة ربما و لكنها اذا ما التقتها هناك في العالم الاخر ستشكرها أنها جعلتها تعرف معنى أن تكون حرة.
اقتربت من النهر و مسحت وجهها و ارتوت منه إلى أن اكتفت. و مضت على ضفافه حاملة حقيبتها غير آبهة بشيء. مشت طويلا خلال النهار و كلما جف فمها ارتوت من مياه النهر لتغالب الجوع الذي يعتصر أحشائها، تتمشى بتريث كلما انهكها التعب. كان تسمع على مقربة منها صوت المياه وهو يعلو و يعلو كلما تقدمت، و لكنها لم تبدي له اهتماما فقد أنهكت قواها حتى أنها أصبحت تنتظر أن يخطفها الموت في أية لحظة.
عندما بلغت نهاية الطريق المستقيمة كان ماء النهر يصب من على بعد مترات من موضع قدميها وقد قسم المكان الى شطرين، كانت هي في الجهة اليمنى تستشعر حالة ذهول مما ترى عينيها. كان الماء يصب في فراغ هائل مصدرا صوت عاليا لا يسمع سواه، كانت على قمة منحدر حاد، غطته أشجار مائلة. و في الأفق البعيد كانت السماء الزرقاء تلتقي بسماء أخرى، خيل إليها أنها تهلوس من الجوع.
قررت أن تستجمع قواها و تجري الى أسفل. بدأت تركض حاضنة الحقيبة ببطء كانت تدوس على الحجارة و بعض الصخور. نزلت في المنحدر الترابي على صوت تدفق المياه من أعلى، عندما لم تصبح قادرة على الركض، أخذت تمشي.
مشت طويلا حتى أصبحت غير قادرة على الحركة فقررت أن تنام عند قدم شجرة عالية مائلة بطريقة جميلة. رمت بحذائها و أخذت تداعب أطراف قدميها المتورمتين. شعرت برغبة شديدة في البكاء فأخذت تبكي، لم تعد قادرة على الهروب من الوجع الذي تشعره و ما عادت ذكرياتها كافية لتنسيها اياه. أصبحت لا تخشى شيئا و لا تنتظر شيئا من غد، يعبر خاطرها فراغ سحيق. ظلت تبكي إلى أن نامت و قد بلل أعلى الحقيبة التي كانت تضمها إلى صدرها.
استيقظت و قد بزغ نور الشمس و تسللت بعض الأشعة بين الأشجار لتبلغ محياها. كانت عيناها متورمتين و أحست أن كل ما يحيط بها أصبح الآن حزينا مثلها. قامت من مكانها و جمعت خصال شعرها الى أعلى. كان صوت المياه عاليا، اخذت تمشي متثاقلة إلى أن بلغت نهاية المنحدر. كانت المياه تنزل من اعلى و تتجمع في بحيرة واسعة لتتفرع منها ثلاث أنهار.
جلست تراقب كل ذلك الجمال، تشعر أن روحها ساكنة قد استنفدت كل عواطفها. و دون أن تفكر بشيء، بدأت تنزع ملابسها وقامت تتمشى عارية إلى ضفة البحيرة. ارتعش جسدها و هي تضع أطراف قدميها على صخرة وسط المياه.
كان جسدها النحيل يلتقي لأول مرة بمياه نقية شفافة، أخذت تخطو الى الامام الى أن غاص كل جسمها في الماء. حبست أنفاسها و غطست رأسها تحت الماء. أخذ جسدها يهوي إلى أسفل وهي فاتحة يديها دون أية مقاومة، كانت تستشعر دقات قلبها التي تتزايد لعدم توصل رئتيها بكمية من الهواء، لكنها ظلت مغمضة الأعين لا تستطيع أن تتذكر شيئا و لا أن تفكر في شيء. كانت مستسلمة لشعور عميق بالفراغ.
في غمرة النسيان والموت يسرقها من الحياة كلما غاص جسدها إلى أسفل البحيرة، رسمت في السواد عيون تبدو غريبة و جميلة و أمسكت بيديها أنامل خشنة لتسحبها إليها. في تلك اللحظة، فتحت زهرة عيناها وسط الماء وأخذت تدفع بجسمها إلى أعلى.عندما أخرجت رأسها من الماء بقوة، أخذت تتنفس بعمق الهواء و تسعل بشدة لان الهواء يحرق رئتيها.
ظلت جالسة في الماء إلى أن استقرت دقات قلبها. شاردة الفكر، كانت شمس ذلك اليوم حارة جدا، عندما استجمعت بعضا من قواها، خرجت إلى ضفة البحيرة لتلبس فقط سترتها، أمسكت بشعرها و كبحت جماح غجريته بظفيرة و حملت حقيبتها و أخذت تمشي من جديد عارية الساقين، حافية القدمين بخطوات متثاقلة و ظل الفراغ السحيق مستوطنا شعورها.
عندما بدأت آخر خيوط النهار في الاختفاء كانت قد مشيت مسافة كبيرة حتى أصبح صخب المياه لا يسمع. كلما نظرت حولها لا ترى سوى الأشجار حتى العصافير التي كانت تؤنس وحدتها ما عادت زقزقتها تهمها. شعرت بالملل و الأسى و كثير من الجوع و الوحدة. وقبل أن تغيب شمس ذلك اليوم كانت قد رمت بنفسها على جذع شجرة و أغمضت عينيها لتنام و تنسى.
***************************************************************
كل ما كانت تتذكره عندما استفاقت في غير المكان الذي نامت فيه، أنها لامست في ماض قريب الموت بأطراف اناملها و أنها كادت تمكنه من نفسها لكنها أبت في آخر لحظة.
أغمضت عينيها و لامست رطوبة جبينها الذي كان يتصبب عرقا. عندما فتحت عينيها من جديد و نظرت إلى السقف لم ترى السماء و نظرت الى جدران من حولها و حاولت لم شفتيها على بعض فلم تستطع، كان فمها جافا كبئر مهجور. ابتسمت عندما شعرت أن كل الألم الذي كان يعتريها قد رحل و ظنت أنها فيما وراء الحياة التي سمعت عنها، حيث لا ألم ولا حزن.
ولكن حركة أخرجتها من هلوستها. قفزت من المكان الذي كانت تستلقي عليه وكأنها استيقظت فجأة من غيبوبة، جلست وسط الغرفة تنظر في اندهاش إلى ما يحيطها. أخذت تجمع ريقها بصعوبة في رعب جعل صوت دقات قلبها يتردد في أرجاء الغرفة الصغيرة التي لا يوجد بها نوافذ...أربعة حيطان بنيت بأحجار كبيرة مرصوصة فوق بعضها وبعض الصوف الذي فرش على الأرض بجانبها.
جمعت خصال شعرها واخذت تنزل على ساقيها العاريتين السترة القصيرة المتسخة جدا التي تلبسها. وقفت بصعوبة و مشت خطوتين الى لوحة خشبية كانت تسد الغرفة من الخارج، جمعت كل قواها و دفعتها...عندما قذفت اللوحة بعيدا عصف الصوت المحبوس خارج الغرفة بأذنيها. كانت الغرفة مبنية على بداية منحدر لا تبدو من أعلى نهايته، مجرد غابة هائلة تغطي كل المكان. لم تقوى على تحمل سخونة الرياح التي عصفت بجسدها النحيل فهوت ساقطة على الأرض مغشيا عليها.في حرارة الصيف المفرطة...و حرارة جسدها التي كانت تدفعه إلى الارتعاش كأوراق الأشجار مع هبوب الرياح. أحست بيد تلمس جبينها لكنها لم تقوى على فتح أعينها، كانت كل أحاسيسها متعبة. متعبة من رحلة هروبها إلى المجهول.
ما أصعب الهروب إلى المجهول، حيث لا يبدو للطريق نهاية وتصبح كل النهايات محتملة بالتساوي. الهروب الى المجهول حيث لا يمكن أن تنتظر شيء و لا أن تبحث عن أحد، وكأنك تجري في فراغ سحيق و يصبح ما تراه اتجاها واحدا اتجاهات متعددة وكأنك تدور حول نفسك داخل حلقة.
حاولت فتح عينيها من جديد عندما كانت تلك اليد تفتح فمها، فلم تقوى فمدت يدها و أمسكت تلك اليد ذات الملمس الخشن و استيقنت أنها لا تعرف تلك اللمسة ولا صاحبها، فتركتها و استسلمت و هي تبتلع الشراب الحلو الذي سكبته في فمها.مرت ايام وهي على حالها تمر بحالات هلوسة و تصرخ ليتردد صدى صوتها في أرجاء الغرفة لكنها تأبى أن تفتح عينيها.
في صباح يوم معتدل الحرارة جاء إليها وجلس عند رأسها كما يفعل كل يوم. منتظرا أن تفتح عينيها.
في مساء ذاك اليوم، بعد أن أخذت السماء تغير لونها. كانت زهرة تتحرك و تصدر صوتا غريبا، ما جعله يجلس عند رأسها ماسكا يدها بين يديه. عندما فتحت عينيها بصعوبة شديدة لتراه، لم تستطع أن تميز ملامحه، كان كل شيء متداخلا... تمتمت كلمات لا معنى لها و عادت لتغفو كطفلة مستسلمة لسبات عميق.ظل تين كل تلك الليلة عند رأسها واضعا يده على جبينها، في الظلام الدامس الذي أخفى ملامحها الجميلة مترقبا بزوغ شمس الصباح باحتراق.
عندما استفاقت زهرة في الصباح كان وجهها قد استرجع نوره. فتحت عينيها على وجه تين مباشرة كان ينظر اليها وهو يمسك بيدها بقوة كأنها طفلته التي يخاف أن تتوه منه. سحبت يدها من يده بسرعة و دفعته بعيدا فقام من جانبها ، كاد ينزلق على رأسه بعدما وضع قدمه على بقايا فاكهة التين التي كان يعصر محتواها داخل فم زهرة طيلة الأيام التي أمضتها عنده. لكنه وجد توازنه و وقف وظهره إلى اللوحة الخشبية التي تسد الباب، هذه المرة من الداخل.
ظلت جالسة و هي تسأله من هو و لما جاء بها الى هنا. كان يسمع كلامها لكنه لا يفهمه لم يستطع أن يجيبها، ظل محدقا اليها و الى حركات فمها و اشارات يديها.
وقفت على رجليها و امسكت بحقيبتها و فتشت داخلها. كانت تشعر بخوف شديد من هذا الغريب و لكنها لا تعرف كيف تهرب منه. خطرت لها فكرة ان تضربه على رأسه بالقارورة الطينية و تدفعه إلى الخارج هاربة لكنها خافت أن يلحق بها فيؤذيها، فعدلت عن الفكرة و ادخلت القارورة الحقيبة من جديد واغلقتها و قررت أن تهدده لعله يرضى تركها وشأنها.
ظل تين في هذه الأثناء واقفا يراقبها و قد علا صدره فرحة لم يستطع التعبير عنها و اختلجه شعور غريب. عندما اندفعت باتجاهه رجع خطوتين الى الوراء حتى التصق ظهره بالباب و رفعت عينيها في عينيه وأخذت تشير إليه بسبابة أصبعها اليمنى و تصرخ في محياه كلمات لم يفهمها، لكنه فهم أنها ليست غاضبة هي خائفة فقط فقرر الخروج. ابتسم اليها فتراجعت إلى خلف عندها استدار نحو الباب و رفع اللوحة الخشبية، وضعها جانبا خارجا من الغرفة.
ظلت زهرة بالداخل تدور حول نفسها طيلة اليوم كلما نظرت الى الخارج تجد تين جالسا عند بداية المنحدر. و كلما خطرت إليها فكرت دفعه إلى أسفل المنحدر للتخلص منه، تخاف و تعدل عن الفكرة.
عندما تعبت من الارتباك والحيرة، خرجت إليه. لما رآها تين وقف في تردد ومسح ثيابه الغريبة. كان المنظر جميلا جدا، ابتسمت وهي تحس بانشراح كبير ثم زمت شفتيها و قطبت حاجبيها و هي تلمح تين يحدق اليها. لم ينزل عينيه من عليها و كأنها حلم جميل جاء ليرخي بظلاله على حياته. فرغم كل التعب الذي جعل هالتا عيناها تسودان إلا أن ذلك لم ينقص من جمال محياها و نعومته و اتساق ملامحه.
عندما نظرت زهرة الى تين احمرت خداه. ابتعدت عنه مسافة وجلست عند حافة المنحدر تنظر الى الافق حيث تلتقي السماء فعلا بسماء أخرى. ظلا لساعات طوال صامتين.
قبل ان يحل المساء، قام تين ليجلب بعض الحطب الذي جمعه بالقرب من الغرفة فقامت زهرة من مكانها ووقفت عند باب الغرفة تراقب ما يفعله وهي ضامة حقيبتها إليها. عندما جمع الحطب أمام الغرفة أخذ يضرب حجرة بأخرى حتى اشتعلت نار صغيرة ثم أخرج من ثيابه نبتة و أشعلها بتلك النار و رماها وسط الحطب، الذي أخذ يحترق ببطء. نظر إلى زهرة وكأنه يطلب منها أن تجلس لكنها تجاهلته، فجلس هو بجانب مكان وقوفها، بعد برهة ابتعدت عنه قليلا و جلست.
عندما قاربت الشمس على الغروب هبت ريح ناعمة ساعدت على اشتعال النار وسط الحطب الذي أخذت رائحته تفوح و تحتل المكان. عندما بلغت الرائحة انف زهرة وشمتها بكل حواسها، أمسكت بأطراف السترة التي كانت تلبسها بيديها و قد بدأت صور الماضي تمر من أمام عينيها، الأسوار و العم عاصب و ساعات البوح له بكل ما تشعره، و أبوها و غزل الصوف و هروبها و جرح كتفها و المخلوقات المخيفة و سرب الطيور المهاجرة و الجوع و خوف ليالي الوحدة. نظرت الى تين و قد ملء عينيها الرعب و كأنها تراه لأول مرة ودون أن تشعر بما تفعله، غطت أذنيها بيديها و أغمضت عينيها وأخذت تضرب بسيقانها العارية المتعبة على الأرض حتى تطاير الغبار من حولها. و كأنها تحاول أن توقف شريط الأحداث الذي استرجعته فجأة و الذي أعاد معه كل شيء عاشته و كانت لفترة طويلة بعيدة عنه حتى خالت نفسها نسيته. أخدت تغمض عينيها بقوة و تشد عليهما بيديها و تغوص في الظلام الحالك محاولة أن تعود إلى جذع الشجرة الذي نامت عليه آخر مرة حيث شعرت برجفة الموت تسري في كل أعضائها. عندها أمسك يدها تين برفق توقفت عن الحركة...أزاحها من على عينها اليمنى فرفعت الثانية في هدوء. أخذت تستنشق و تستنفر الهواء كما يفعل محاولا إعادتها إلى هدوئها. اتسعت عيناها وهي تنظر الى تين ، نظرت الى عينيه وكأنها تراه لأول مرة و شعرت أنها بعد زمن طويل اصبحت الان في حضرة إنسان مثلها وكأنه نعمة من السماء.
جلس تين بجانبها...احتضنت ساقيها و دفنت نصف وجهها فيهما وأخذت تراقب الحطب و هو يحترق و استكانت و صورة العم عاصب لا تفارق فكرها إلى أن نامت. قام تين و حملها الى الغرفة وهي تغط في سبات عميق. وضعها مكانها و خرج لينام بجانب الحطب عند المنحدر في هدوء. في تلك الليلة حلمت زهرة لأول مرة منذ زمن، كان تراه في حلمها وهو يتسابق معها وسط الغابة و يضحكان حتى يتعبان فيحملها بين ذراعيه و تنام عليهما. عندما استفاقت في الصباح لم يكن تين في الغرفة و لما نظرت خارجها لم يكن هناك سوى رفات الحطب المحترق. عادت الى الغرفة و أخذت حقيبتها و خرجت. نظرت حول الغرفة من جديد فلم تجده، و شعرت بحزن صغيرلأنها ستذهب دون أن تودعه. فقررت أن تترك له القنينة الطينية المملوءة بالماء كتعبير عن الامتنان. أغلقت حقيبتها واخذت تنزل على المنحدر. وعلى بعد أمتار فقط كانت قد اخترقت الغابة من جديد. كانت بعض الأشجار تحمل فواكه تين شهية...فقطفتها بعناية و تذوقتها و هي تتذكر جمال تلك العينين اللتين أخرجنها من الظلمات إلى النور. و ابتسمت و هي تلوم نفسها لكونها لم تبقى هناك بعض الوقت حتى يعود لتراه للمرة الأخيرة و تعجبت من حال الإنسان، كيف يمكن لمشاعره أن تتقلب بين ليلة وضحاها. احست ببعض الحسرة اضطرتها أن تتوقف قليلا لتتأكد مما تحس به، كانت فعلا تشعر بحنين اليه. و كذلك كان يشعر تين في نفس اللحظة، حينما عاد إلى الغرفة بعدما قام بقطف فاكهة التين التي زرعت يداه حول ذلك المكان ليقدمه إلى الجميلة التي وجدها ساقطة على الأرض وقد أغمي عليها. عندما وجدها كانت تبدو كطفلة صغيرة تنطوي على بطنها و قد انسدل شعرها وراءها...أخذها وأخذ الحقيبة من بين يديها وحملها على ذراعه إلى غرفة خلوته. ظل لأيام يعالجها و يطعمها و ينام عند رأسها كلما استدعى الأمر ذلك. رغم أنه لم يفهم كلامها شعر بكل حركة تحركتها. عندما عاد الى الغرفة و لم يجدها، فتح يديه لتتساقط منهما كل الثمار و جلس عند الباب في حزن، تركه يعتريه في سكون عندما التفت ثانية للغرفة ليتأمل مكان نوم زهرة طيلة تلك الأيام رأى القنينة الطينية فقام و حملها و عاد ليجلس واضعا إياها أمامه. أخذت زهرة تشق طريقها وسط الغابة تشعر بمزيج من الأحاسيس. ذلك المزيج من المشاعر الذي يرهق و يعيي، يجعل المشاعر تعيش جنونها. كانت تمشي مرتاحة في ضوء النهار الطويل و تخطو وسط الغابة بثقة نحو المجهول. لكن املا غريبا أصبح يملأ قلبها، الامل في ان تلتقي أمها. فلربما كانت تعيش هي كذلك في مكان قريب من هنا. في آخر ليلة نامتها في الغابة كان يعتريها شعور باليأس و كل ما كانت تنتظره هو أن تموت هناك على جذع الشجرة، أما اليوم فقد تغير شيء ما.
عندما بدأت السماء تفقد شيئا من زرقتها شعرت بالوحشة...و في أعماقها اشتاق شيء لتين. و على جذع شجرة سميك وضعت جسدها و هي تراقب السماء إلى أن اسودت فنامت في سلام.استيقظت و قد انتصف النهار. خيل اليها ان ما عاشته الأيام الماضية القريبة مجرد حلم. لكن صورة تين كانت أمام عينيها تؤكد لها انها فعلا عاشت ما عاشته...قفزت من على الشجرة إلى الأرض و كانت تشعر انها شبعانة و مرتوية.
أخذت تمشي وسط الغابة من جديد. مشت لأيام، كانت الحرارة مفرطة جدا و هكذا تكون عندما يقترب الفصل من نهايته. زاد فيها تعبها و كبر الفراغ الذي يعبر خاطرها من جديد. وفي خضم العطش الشديد ندمت كثيرا لكونها تركت قنينتها الطينية لتين. في عصر أحد الأيام، أخذت زهرة تجر أرجلها وهي لا تقوى على ذلك عندما اشتد بها الجوع جلست، كان حولها بعض النباتات الخضراء تبدو شهية قطفت ما بلغت يداها منها و اخذت تمضغها بين أسنانها. بعد برهة من الزمن شعرت أن الفضاء حولها يدور و يدور. من شدة الخوف الذي اعتراها وقفت و امسكت حقيبتها ،عندما نظرت بعيدا لمحت دخانا يتعالى في السماء، حاولت أن تجري لكنها كانت تشعر بدوار شديد مشت خطوتين ثم سقطت على وجهها أخذت تتقيأ و تتوجع حتى غابت عن وعيها.

في تلك اللحظة تحرك شيء في قلب تين، و كأنه سمعها وهي تتوجع عندما سقطت على الأرض. نهض كالمغشي عليه وترك الحطب الذي أشعله ورائه وأخذ يمشي في الغابة و قد شارف النهار على الانقضاء. كان يشق طريقه وسط كل تلك الأشجار دون أن يفكر بشيء كانت تلك المشاعر الصادقة تعطل حواسه و تقوده من غير أن تستشيره. و هو يمشي فإذا به يلمح جسما صغيرا مرميا على الأرض. ركض إليه و أخذ ينظر إليه و قد اتسعت عيناه، هي نفس السترة و نفس الجسم و نفس الشعر. كان لا يصدق عينيه. عندما قلبها على وجهها، أخذ يمسح من عليه التراب الذي غطاه. كانت هي نفس الفتاة مغمضة العينين و نحيفة الوجنتين. حملها بين ذراعيه كطفلة صغيرة و أخذ يمشي بها في الغابة.
عندما بلغ مجمع الأكواخ توقف، نظر فلم يرى أحدا و فكر قليلا ثم أعاد النظر ولم يعاود التفكير، سارع من خطاه و دخل كوخه ليضع زهرة على فراشه الصوفي. أخذ بعض الماء من قارورتها وأخذ يغسل التراب عن محياها. كانت تبدو شبه ميتة و قد اشتدت شحوبة وجهها وخرج من فمها سائل أبيض. وضع أذنه على صدرها ليسمع دقات قلبها التي كانت بطيئة للغاية.
خرج في صمت من كوخه، شعر بحزن كبير يعتريه و هو يعلم أنها الآن بين يديه لكنها تنسل من بينهما ببطء. نظر الى السماء و دار بينهما حديث خفي.
قصد كوخ العمة ليطلب منها خلطة دواء التسمم التي تصنعها. كان أكثر ما يريده أن تشفى زهرة و يرى عينيها من جديد. لم يعرف كيف سيكون رد فعلها لأنه قام باحضار غريبة...عموما لا تجري الامور هكذا...فالمرة الوحيدة التي جاء بها شخص بشخص اخر الى مجمع الاكواخ...كانت هي العمة عندما قامت باحضار تين طفلا الى المجموعة.
القواعد في مجمع الأكواخ معروفة وفيه تبدأ حياة جديدة.
يحظى كل شخص بكوخه الخاص و كما التحق بهم فرد جديد تبني معه الجماعة كوخه. و جرت العادة أن يجتمعوا عند فجر كل يوم و يشكروا السماء التي دلتهم إلى هذا المكان و يفطروا مجتمعين قبل أن يبدؤوا العمل.
جميع من في مجمع الاكواخ يتكلمون لغة مشتركة و لو أنهم قليلا ما يتكلمون...في مجمع الاكواخ يقدس الصمت كما تقدس الآلهة.
العمة عندما جاءت بتين إلى مجمع الاكواخ كان طفلا صغيرا مغيب الوعي، وجدته مرميا على شط البحر عاريا و هزيلا جدا. بعد ان فقد اباه و امه في رحلة صيد مضنية...تركوه و ذهبوا و قد وعدته امه بأن تعود و هي تقبله بحرارة....لكنها لم تعد! تركت وراءها طفلا جميلا جدا. أهله ناس بدائيون كانوا يسيرون عراة، مجردون من كل حكمة و قساة جدا. لنقل ان القسوة فرضت نفسها عليهم فهم يتعبدون الطبيعة و يرجون رحمتها فقط...في ظل العراء، الحاجة و الخوف المستمر الذي يعيشونه لم تكن حياتهم سهلة ابدا و كانوا يتضرعون الى السماء بقرابين علها تديم بقائهم في الوجود...فرحلات الصيد بحثا عن القوة غالبا ما تكون مميتة، و فيها قضى والدا التين...و ذاك الطفل الجميل اختير قربانا…حمله أهله و وضعوه على لوح خشبي و تزاحموا ليحظوا بشرف قذفه في البحيرة التي تصب في البحر وتعالت أصوات تعويذاتهم المتضرعة للطبيعة بأن تقبل القربان، على صوت صراخه الباكي المستنجد...تلاقف التيار تين الطفل الذي جمد الخوف أطرافه العارين و يداه الصغيرتين المتمسكتين جيدا باللوح الخشبي و الدموع لا تنكف تنهمر من عينيه...ظل متمسكا باللوح الخشبي…
كل ما تذكره عندما فتح عيونه في مكان تملؤه مجموعة قارورات ملونة و أحزمة من اعشاب عطرت المكان برائحة دافئة، انه ظل متمسكا جيدا باللوح الخشبي الى ان اصبح التيار قويا و وجد نفسه يقترب من المصب و رفع بعيدا عينيه في الأفق حيث تلتقي السماء بسماء أخرى فأفلت اللوح الخشبي و فتح ذراعيه الصغيرتين وهو يرجو رحمة معينة فقذف به من أعلى و هوى جسده الصغير نحو الأسفل و فقد الشعور عندما ارتطم بالماء مغمضا عينيه وهو يرى الحياة التي ضرب من اجل الخروج اليها شهورا بطن أمه تفلت منه ببساطة...و كلما تذكر كيف رجفت اطرافه عندما تلاقفته امواج البحر و استسلم اليه مفوضا اليه كل أمره و كيف انه اعطاه فرصة ثانية و قذف به الى احضان هذا المكان...توجه اليه و جلس على الرمل لساعات شارد الفكر، متأملا عظمته.
لم يخبره احد من سكان مجمع الاكواخ كيف وصل الى هنا...حتى العمة لم تخبره و لا فتحت معه يوما تلك القصة...و كلما نظر اليها تذكر كيف كانت تعتني به وهو طفل صغير، و تعلمه في نفس الوقت أن يعتمد تماما على نفسه...يذكر كيف أخذته في رحلة عزلتها لتعلمه كيف يجدد روحه و صفاء ذهنه بعيدا عن كل البشر.
عندما اصبح تين طفلا مميزا عرف ان العمة هي صاحبة المكان و هي أول من جاء الى هنا و اول من عمر كوخا و كلما التحق احد بهذا المكان استقبلته ببساطة. لم تشعر أحدا يوما بأن هذا المكان ملكها او ان لها سلطان عليه و على العكس من ذلك كانت تمتع نفسها بحرية تتكامل مع واجباتها و لأنها تحب كل فرد يسكن مجمع الاكواخ، كانت تفهمهم أنهم هنا جميعا سواسية يتحمل كل واحد منهم جزءا من واجب واحد إن كانت هي ضمنهم أم لم تكن فليستمروا في أدائه...و لذلك كان الكل يعمل بنفس الجد و إن لم يستطع في بادئ الأمر عود نفسه و تعود عليه.
كانت العمة عند نهاية كل فصل تجمعهم و تجلسهم حولها في دائرة و تطلب من كل واحد منهم أن لا ينسى نفسه في الجماعة و أن يبقى وفيا لوحدته، التي تراها أنها الحالة الإنسانية الوحيدة التي تجعلك فعلا تعرف نفسك و بها و فيها تقضي على كل السلبيات التي جمعتها من العمل الروتيني الذي تقوم به كل يوم… و بهذا تضمن سيرورة مستقرة و متناغمة للحياة في مجمع الاكواخ. كانت إذا ما رحلت عنهم لم تكلف أحدا على رأسهم و بذلك كانت الحياة تمشي في هدوء و تناغم...و كلما حان وقت رحيل أحد رحل في صمت...و عندما يعود يستقبلونه و كأنه لم يرحل يوما. و عندما يحين وقت رحيلها هي لتحيي روابط علاقتها بذاتها تنام بينهم و لكنهم إذا ما استفاقوا و هموا ليعملوا أدركوا أنها رحلت عنهم عندما يرون عند باب كوخها سلة بها مجموع خلطات تعلم انهم قد يحتاجونها. عندما قصدها تين في ذلك اليوم وجدها أمام الكوخ تضع يدها على خدها متربعة في صمت جميل... تقدم اليها و دون أن يفكر أخبرها بأن في كوخه غريبة...عندما سمعت كلامه رفعت عينيها فيه و طلبت منه أن يجلس...جلس تين في خجل...و أخبرها كل القصة ابتداءا من يوم من أيام خلوته بنفسه حين وجد فتاة في الغابة مرمية على الأرض إلى تفاصيل اليوم عندما شعر ببعض الضجر و أخذ يمشي في الغابة قريبا من مجمع الأكواخ فإذا به يراها ملقاة على الأرض، لكنه يشك أن تعيش هذه المرة فقد كانت شاحبة جدا رغم أن حرارتها طبيعية و أصبحت هزيلة جدا.
دون أن تبوح العمة بكلمة واحدة قامت و دخلت كوخها و أخرجت من بين مجموعة القارورات قارورة بنفسجية صغيرة، كانت تستخرجها من زهرة تسميها زهرة الحياة...خرجت الى تين فمدتها اليه و طلبت منه أن يسرع...تبعت العمة خطى تين بتأني و انتظرت على بعد خطوات قليلة من الكوخ...و انتظرت كثيرا. الكوخ يعتبر مساحة خاصة بكل فرد و لا يجوز لأحد أن يدخل كوخ الآخر.
عندما حل المساء خرج تين من كوخه و استغرب عندما وجد العمة تجلس أمام مدخل كوخه...و لكن حال زهرة كان يشغله أكثر و أومئ إلى العمة مشيرا اياها انها لازالت على نفس الحال...مدت العمة يدها الى تين و جعلته يجلس بجانبها و مررتها على شعره الأسود في إشارة منها إلى مواساته...ثم ربتت على كتفه و تركته وحيدا و انصرفت...كانت تشعر في نفسها بحزن غريب على تلك الفتاة...فإذا ما ماتت، سيكون أول من يموت في مجمع الاكواخ شخص غريب...لم ترقها الفكرة كثيرا و لعنتها في صمت و هي تدخل كوخها...راجية ان تعيش تلك الفتاة.
حل الظلام و تفرق سكان مجمع الأكواخ...أما تين فقد ظل عند رأس زهرة ناظرا الى عينيها علها تفتحهما، بينما كانت العمة ملقاة على فراشها الصوفي و قد اطلقت العنان لخصلات شعرها كانت تشعر أن شيء في قلبها تحرك، عاطفة غريبة تجتاحها.كانت تلك الليلة بنسبة للآخرين مثل غيرها، خلدوا الى النوم لينتهي يوم و يصبحون على آخر...أما ليلة العمة و تين كانت طويلة تحرم عينيهما النوم و تصر على ان يرياها تنقضي و تخبرهما أنها ليلة ليست كمثيلاتها. عند بزوغ أول أشعة الشمس و قد تغير لون السماء واختفت العتمة و حلقت الطيور بعيدا في جو السماء...فتحت زهرة عينيها على وجه تين الذي كان يغفو عند رأسها...كانت تشعر بصعوبة في تذكر ما حدث...نظرت إليه ثانية، الى تقاسيم محياه...و ابتسمت و كأنها زهرة تتفتح في الربيع بعد ان انقضت ليالي الشتاء...ظلت ناظرة إليه حتى نامت من جديد...كان كل ما يدور في عقلها أنها هنا في أمان. بعد ان مضت سويعات على ذلك استفاق تين و نظرالى وجه زهرة الذي احمرت وجنتيه من جديد و الدماء عادت تجري فيه...اتسعت عيناه و دون ان يفكر في شيء، فتح ستار كوخه و أخذ يجري الى كوخ العمة...و هو يجري الى كوخها وجدها جالسة وسط مجموعة من النساء منهمكات جميعهن بتحضير الفطور...وقف تين امامهن نظرن اليه و دعونه ليجلس معهم ليفطروا جميعا لكنه ابى لم يكن يستطيع حتى جمع انفاسه و لم يفكرعندما مد يده الى ذراع العمة و جرها اليه طالبا منها ان تجري الى كوخه...ظلت النساء فارغات الفاه ينظرن الى تين و هو يعدو بسرعة راجعا الى كوخه، متعجبات من كل تلك الحماسة التي عصفت به فهو طول مقامه في مجمع الاكواخ تميز برزانة الحركة...وقفت العمة و أخدت اسفل ثوبها الطويل بين أصابعها و اخدت تمشي بتريث خلفه...عندما بلغت عتبة كوخ تين كان الستار مرفوعا و رفع يده طالبا منها ان تدخل...تقدمت خطوتين الى الداخل و ركزت نظراتها على الفتاة النائمة على فراش تين...ثم اقتربت خطوتين ثانيتين حتى بلغت محيا زهرة...عندها اهتز صدرها و انقبض قلبها و احست بأن معدتها تقلبت وشعرت بدوار خفيف، امسكت صدرها بيدها اليمنى، فمد تين يده اليها و اخد يدها بين راحتي يديه وقبلها...عندها نزلت العمة على ركبتيها مقتربة من محيى زهرة و قد احمرت وجنتاها و هي تغفو في هدوء...كانت رائحة الماضي تجتمع في أنفها و تتسارع الصور و الأحداث في عقلها...مررت يدها في ذلك الشعر الغجري المنسدل الى الخلف... و بكثير من الحب و قليل من الشجاعة مررت أناملها على جبينها و عندما نزلت قبلة مرتجفة على تلك الوجنة الحمراء استفاقت زهرة و نظرت مباشرة الى تين الذي كان يجلس عند قدميها ثم نظرت الى عيني العمة التي جلست على ركبتيها عند رأسها ...و أخذت تلك الأعين تنظر إلى بعضها في يقين على أنهن تعرفن جيدا بعضهن.
**************************************************************و توقف الزمان...هو تشبيه يستعمله الناس ليعبروا عن أحاسيس عبرت خاطرهم و كان لها من القوة أن أوقفت الزمان...فهم لا يقبلون أن يختزل الزمان ذلك الشعور في أجزاء من الثواني. و كأن الانسان ينتفض بهذا التعبير على واحد من ابعاد الحياة البشرية...الزمان الذي يمر دون أن يسأله ان كان يريد أن تمضي هذه اللحظة بسرعة أو أن تبقى أطول. الزمان الذي يسرق كل شيء من بين أيدينا ليصبح من الماضي...كل نفس و كل فكرة و كل حركة و كل نظرة و كل ابتسامة و كل كلمة و كل موقف...يفلتون من بين أيدينا و يرمون بأنفسهم في الماضي...بعضهم ننساه و بعضهم لا نلتفت اليه و بعضهم نريد فقط لو أنه يبقى أكثر.كانت العمة تسترجع شريط ماض بعيد...عندما حملوا اليها طفلتها الصغيرة...كانت مثل قطعة ثلج بيضاء...و عكس كل الرضع كانت هادئة...حملتها بين يديها، كانت عيناها مغمضتان و شعر رأسها كثيف...عندما قبلتها تلاشت كل الآلام...كانت تشعر بفخر لأن عبرها جاء انسان جديد الى هذا الوجود...وعلى مر السنين كانت تراقب ذاك الجمال الذي أخرجته من الظلام الى نور الحياة و هو يكبر...الفتاة الشابة الجميلة و الثائرة اصبحت اما...كانت زهرة تنير عتمة البيت الكئيب و كأن شعاعا من ضياء الشمس استطاع أخيرا أن ينفذ إليه...كانت تلك العيون السوداء مميزة...مميزة عندما تضحك و عندما تبكي و عندما تكون شاردة تفكر.تلك العيون مضى على آخر مرة نظرتا فيها الى بعضهما البعض عشرة سنوات كاملة...كانت تعدها العمة بدقة كلما غابت شمس يوم أضافته إلى الذي سبقه. و كلما جاءت ذكرى اليوم الذي تركت فيه ذلك الجسد الصغير وحده على سطح البيت و رحلت، ذهبت في صمت لتختلي بنفسها...كانت تمشي مسافات طويلة داخل الغابة حتى تبلغ تلك الأسوار الشاهقة فتخلع الوشاح عن وجهها و ترفع الحجاب عن شعرها و تتركه ينسدل في حرية تامة و ترفع عينيها في الأسوار الشاهقة و عندما يحد بصرها علوها، تنظر الى السماء البعيدة التي كانت يوما ملجأها الوحيد...و تلامس خشونة تلك الحجارة المرصوصة جيدا حتى أنك لا تستطيع النظر من خلالها...وتجلس عندها و تبكي و هي تخمن نظرة و ضحكة وغمزة و دموع صغيرتها و عندما تغرب شمس المساء تتسلق إحدى الأشجار العالية القريبة من هناك و ترمي بنفسها على إحدى جذوعها و تنام و لا تنسى. قفزت زهرة و هي تبعد تلك اليد الممتدة إليها...كانت تشعر بأن الزمان توقف حقا...لا شيء يحدث الآن و لن يحدث بعد هذا شيء...لم يستطع عقلها تخمين لحظة قادمة.كان تين يشاهد ذلك الموقف الغريب ساكتا ملتزما مكانه عند قدمي زهرة...عندما سحبت العمة الغطاء عن شعرها و نزل شعرها المجعد على كتفها ثم سقطت خصاله لتنسدل على ظهرها و رفعت أعينها الكبيرة البنية في وجه زهرة، اطلق تين شهقة قوية، نفس الشعر و نفس النظرة و لون البشرة...طوال السنين التي عاشها في مجمع الاكواخ لم يرى وجه العمة بوضوح كما يراه الآن...كانت كمن يلف نفسه في قطعة قماش...رغم ان ملامحها كانت تبدو جميلة و ناعمة الا انها كانت تحاول غالبا حجبها...التشابه صارخ بينهما لا بل هما حبة قمح قسمت الى نصفين.الكلام في بعض المواقف يكون دون معنى...وكأننا نستغنى عنه و لا يبقى مكان سوى للمشاعر التي لا تحتاج الى كلمات و لا ترغب في عتاب. مدت العمة يديها الى وجه زهرة ناظرة الى عينيها...عندما لامست محياها نزلت دموعهما معا...و دخلت زهرة حضن العمة و أغمضت عينيها و هي تلف يديها حول خصرها، تماما كالطفلة التي كانت...غطست وجهها في صدر العمة و أخذت تبكي. دمعت عيني تين كذلك، الذي قام من مكانه نحو العمة التي كانت تحتضن زهرة بين ذراعيها و فتح ذراعيه و ضمهما معا.
************************************************************
عندما خرجت زهرة الى وسط مجمع الاكواخ اخذت تنظر الى النساء و الشبات اللاتي تختلفن كل عن الأخرى تماما...كن يشكلن دائرة وسطها أشكال مختلفة من الاكل...يفطرن في صمت...في مجمع الاكواخ، الفضول عادة بشرية لا وجود لها...لا أحد يسأل الآخر عن ما مضى و لا من أين أتى...هنا يتقبل الآخر كما هو...هنا تتجاوز الاختلافات في احترام كامل.عندما أخذت زهرة مكانها في الدائرة جانب العمة و تربعت و هي تنزل أطراف الكنزة القصيرة المتسخة على رجليها...كانت تحملق في النساء من حولها الاتي لم تجدن وجود غريبة ضمنهن أمرا يستحق الاندهاش...فكل واحدة منهن كانت في يوم ما غريبة ايضا...امسكت صدرها محاولة ان تحول دون توقف قلبها عن الخفقان من شدة الفرح...نظرت إلى أمها التي كانت تتأمل اندهاشها، ابتسمت اليها و اومأت لها برأسها أن تمد يدها للاكل.في ذلك الوقت كان تين ينظر إلى زهرة التي لم تفارق صورتها خياله منذ أول مرة رآها...كان قد أيقن أنها مؤكد ستكون أم أولاده الذين لم يفكر يوما فيهم قبل أن يراها.عندما انتهى الفطار الجماعي...أخدت واحدة من النساء تدندن و هي تقوم من مكانها بعض الكلمات التي لم تفهمها زهرة...كانت لغة المرأة غريبة تماما عليها...اخدت النسوة تقمن من مكانهن الواحدة تلو الاخرى كل الى عملها...ظلت هي و العمة و تين جالسين...لم تفارق عيني تين زهرة ابدا...عندما مدت العمة الى زهرة يدها و طلبت منها ان تمشيا الى مكان قريب...غمز تين العمة و تمتم بكلمات. لم تفهم زهرة ما قاله تين فشدت العمة على يدها مطمئنة اياها…التفتت زهرة الى تين مبتسمة و ابتسم هو كذلك في وجهها.
على بعد مسافة صغيرة من مجمع الاكواخ كانت الام و ابنتها الوحيدة تعبران الغابة من جديد في صمت لا يكسره سوى صوت اهتزاز أوراق الأشجار، حتى بلغتا ملتقى السماء بسماء أخرى...نظرت زهرة إلى الزرقة تماما كالطفلة الصغيرة التي كانتها، تركت يد العمة و جرت في كل اتجاه...كانت الرمال الذهبية فاتنة و صوت الطيور التي تحلق بعيدا و تحط على المياه ترسم لوحة غاية في الجمال...لحقت العمة بزهرة التي أخدت تخطو في اتجاه الماء...عندما تبلل ثوبها شعرت برعشة غريبة و بعدها بجنون...و أخدت تجري نحو العمة و تحمل الماء بيديها و تبللها و هي تضحك...دخلت العمة الى الماء...كانتا كالطفلتين تلهوان و تضحكان...عندما تعبتا خرجتا من الماء و ارتمتا على الرمل و هما تضحكان...و قالت العمة:" هذا البحر كنت أسمع ندائه...كنت أرى هذا المشهد أمام أعيني كل ليلة حين كنت أغفو هناك خلف تلك الأسوار... لقد اشتقت اليك كثيرا جدا...أكثر من حبات الرمل التي تغطي هذا المكان"...سكتت زهرة التي كانت تضحك بأعلى صوتها...و جلست قليلا دون كلام...لتضع رأسها على صدر العمة كما فعلت آخر مرة منذ عشر سنوات، و تنهدت طويلا و تمتمت لها: " و أنا اشتقت اليك يا أمي...كنت أشتاق اليك في كل لحظة...كان طيفك يسكنني...أنت منحتني فرصة أن أختار و أنا اخترت أن أكون مثلك...حرة."كان الجو محملا برطوبة البحر، غفت زهرة على صدر أمها المبلل و نامت في هدوء.



عن المدون International Literary Union Magazin مجلة إتحاد الأدباء الدولي

مدون عربي اهتم بكل ماهوة جديد في عالم التصميم وخاصة منصة بلوجر
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد