ادريس الجرماطي- المغرب
الرجل والقمامة...
لا أحد يستطيع أن ينحني لكي يمسح حذاءه، على الرصيف يبدو بقامة طويلة، معطف رمادي عل ظهره وربطة عنق عالقة متدلية على جيده، حمراء تنساق مع شعيرات رأسه الأبيض كليا، وجهه يبدو كخبز بني نسيه جشع الأيام في فرن قديم، طول جسده لا يسمح له أن ينحني، محاولا ذلك بمشقة نفس وكبرياء مختلف، الوضع صعب حد العياء، وضع لزمه أن يجلس منطويا رغم صلابة حواشي أضلعه الطويلة، كأنه أعمدة كهربائية ملتوية، تعمد تكسير أسلوبه الحياتي، فالرجل يكتنز أنفة سحيقة العمر في دواخله التي نمت كتمرد العصافير، فلم يعد يبالي بالطيران الذي أسكنه جحوده الطفولي قراها البعيدة في أعماقه، علامات التكسير أوقفته عند فوهة وبوابة قمامة الحي البورجوازي، حي يسكنه الكلاسيكيون الذي يتجاهلون أفكار الشباب المتعطشين والمتشبعين بأفكار تخالف النمطية القديمة، ومحاولتهم محاربة السواد الطبقي...
في القمامة جرائد سياسية، مقالات تافهة، رسوم متحركة على الصفحات تحكي جنان الخلد، وتستنكر وجهة الفقر، على الصفحة الأخيرة صور للعبة الشطرنج، لعبة لم يتعلمها الرجل طوال حياته، لأنه كان منصهرا في محاولته لتفكيك شباك العنكبوت على سطور حياته المرهقة المتورطة، حينها تعلم تهريب أرجله في جوف لياليه الحمقاء إلى البحث في الأزقة عن القمامات التي يصرف فيها الأعلون خبثا لمزابلهم المختلفة للعادة، منها التقط ذات ليلة ربيعية قميصه البني وربطة عنقه التي تجعله بالأنفة والكبرياء تشميتا بشباب الحي الشعبي الذي يسكنه...
في القمامة أيضا أشياء غير معروفة في تركيبه الوجودي، لذلك تركها هنالك مخافة انفجار يفضح تسلله كل ليلة إلى ذات المكان المختلف، ومن فضائه المزبلي ذلك يلتقط فراخا وثعابين بلاستيكية يحاور فيها أسرارها المكانية القديمة، يجد من خلال تلك الألاعيب وهي عبارة عن أسرار الأطفال الحجريين، صغار يعلوهم الدلل والغنج، وكبرياء يفوق سلطة أبوين أربكهما العناد، وأيقظ فيهما شرارة اللا اعتبار لكل من يسكن خارج الحدود البورجوازية، كونه لا وصف لديهم على شخصيته سوى أنه حاقد على الأوضاع التي أحالها القدر على النسبية، والمطلق فيها رموز بنكية ورشاوي تعرفها أسافل الطاولات، أو ربما طحين ملتف يعرف طريقه ركوبا للبحار وعلى الطائرات الخاصة التي لا تقيس شوارع العامة، إلا إذا فكر الربان في ارسال بصقه على الرؤوس التي تستقبل ذلك بشرعية أمطار خيرية بدلائل سماوية مشروعة، لا يحتكم فيها قانون الارض لأنها السماء، وهنالك سيكون الفصل ذات رعب قادم...
لم يكن الرجل يهتم بالتفاصيل المادية، المزبلة تعلوها المراسلات الإدارية، والكتب التجارية، وشواهد زور لشركات أغلبها أشباح وهمية تربح الصفقات مجانا على حساب الصمت الأبدي، وتكميم أفواه الجاحدين في الأرض، بمجرد إطعام فندقي ورزمة تكفي للمعاش صمتا دون رأي يذكر، لا عواصف تعرفها القمامة لأن الأزبال سرية ولها أرشيفها الغائب في سراديب خاصة، يقوم بالحراسة عليها جنود من الجن، لا صوت لهم ولا هم يفقهون في الأشياء أصلا، كما الأنعام تسير، تجري، تقوم بتقتيل الخارجين عن نظام حفظ الأسرار...
الرجل لا يهتم، ما يهمه كان بسيطا، ربما أن ينعم الحذاء فيه بتلميع، يرد بريق القمر في لياليه البيضاء، لا تفكير لديه سوى أن يكون مختبئا من جروح الأسلاك والنجاة من الحراسة، الليل هادئ في غياب تام لسكان الحي، تراهم يهيمون في كبريات خارج الوطن المهجور، أو أشياء أخرى ينتظر الفقراء فضحها ذات يوم في السماء، حينها سيغيب الجوع كليا ويحضر الخوف بكل ألوانه، خوف جعل الرجل في لحظة بحثه تلك، يتنازل عن بقايا ليمون أصفر، لم يكن في نيته غير تلميع حذائه الأسود....
ليست هناك تعليقات :