رابط صفحتنا الرسيمية

» » علي العبيدي\ امريكا تعاويذ الغياب


علي العبيدي\ امريكا

رفيف الفارس\ امريكا

تعاويذ الغياب

يكتبني المدى

أسطورةَ حنينْ,
أصابعي المصلوبة على الوترْ
كل نغمة تنكأ الجراح العتيقة,
ثلاثون تغص بالترابِ والتميماتْ
ثلاثون بلا شمسٍ بلا قمرْ
أعدُّ اهداب تشرنُقي ,
لم أبعِ السرجَ .. لم اذبحِ الحصانْ
لم أعدم الصومَ والصلاةْ,
في الشمسِ عيني ما جفّ فيها البصرْ
في البحرِ نبضي أزلٌ يفطرُ بالقدرْ,
الغيم يختزنُ الامنيات
والدمُ في المحاجرِ يجاهرُ البراكينَ
في الأفقِ هسيسُ النحيبِ
واستكانةُ الدموعِ .
وصوتك في السهولِ
يسابقُ البكاءْ
يجرني من جدائلي القديمة
أن تذكري الحلم ..
أتلو أساطيركَ حتى الغرقْ
أتنفسُ الفجرَ بين أضلعكْ
الغيب تميمة الروح في بحرك
استلبني فيك موجة ضوء,
أخافُ التوقَ النابضَ بكْ
أخاف مناجلَ الحنينِ
تحصدُ في الروحِ ضوعَ الصيفْ
أرسمك بالفحمِ والدمْ
وأمحو ..
وأعيد تلاوتك بالأمنيات
متى تصحو فيك السهول
متى تعدوك السنون
من الافق البعيد ينابضني همسك
يسابقني دمي اليك
نديم الروح والقمر
اراعد هجير نبضك
وصوتك ملء المدى,
في غيابك تشرب الجبال بقايا الجفون
تسربلني تعاويذك .. في انتظار عزف المطر
ويخفق الوريد لذكرى حلم..
********************************************************
تختار الشاعرة رفيف الفارس عناوين قصائدها بطريقة ذكية فعنوان القصيدة عندها له دلالته التي تحاول من خلالها أن تصل الى هدف معين أو انها تشير إلى حالة معينة كأن يكون حدثا تاريخيا أو عرفا اجتماعيا أو شيئا من التراث وتجعله محوراً للموضوع الذي تكتب فيه وفي نفس الوقت تجلب فيه انتباه المتلقي وتجعله يدور معها باحثا عن خفايا ما تضمنه النص .
وفي عنوان هذه القصيدة دلالة مهمة تجعل القارئ يبحث ويفتش عن أسرار هذا العنوان وما الذي تريد ان تقوله الشاعرة من خلال الكلمة الاولى (تعاويذ) والتعاويذ تشير الى أشياء مادية ملموسة بادية للعيان وأخرى معنوية إما راسخة في فكر الإنسان ويعتبرها من المسلمات أو طارئة نتيجة حوادث عابرة من صنع الإنسان أو متغيرات في الطبيعة أثرت في ذلك الفرد واعتبرها جزءاً من الحقائق التي تحدث في الحياة وهذه بمجملها لها تأثير في حياة الفرد والمجتمع ولا يمكن مواجهتها والسيطرة عليها إلا من خلال هذه التعاويذ .
علينا ان نقف على معنى التعاويذ لغويا لتوضيح مقصود الشاعرة
تَعَاوِيذُ : جمع. (مصدر عَوَّذَ). :-لاَ يُؤْمِنُ بِالتَّعَاوِيذِ :- : بِالتَّمَائِمِ وَالرُّقَى، أَيْ مَا يُعْتَقَدُ أَنَّهُ يَحْمِي الإِنْسَانَ مِنَ الأَشْرَارِ وَالسِّحْرِ. تعويذ: (اسم)
لَمْ يَجِدْ أَحَداً لِلتَّعَوُّذِ بِهِ : الاِلْتِجَاءِ إِلَيْهِ وَالاعْتِصَامِ بِهِ
التَّعَوُّذُ بِاللهِ : قَوْلُ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
عاذ به، اعتصم، استجار :-استعاذ بالله من المرض، - (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) .
ثم اردفت الشاعرة بعدها بكلمة الغياب فصارت (تعاويذ الغياب) فاعطت العنوان المعنى الحقيقي الذي أرادته الشاعرة لأنها متمرسة في طريقة إنتقاء قضايا ومواضيع قصائدها التي يدور حولها الحوار وهي تستمد هذه الأفكار من خزين تراثنا الخالد الذي لها باع طويل في معرفة اسراره وكيفية صياغته بإسلوبها العصري والحيوي الذي يعطي النص طاقته الإيجابية والمؤثرة في الفكر الإجتماعي والإنساني والثفافة عموماً .
بعدها مباشرة استهلت الشاعرة قصيدتها بالجملة الفعلية يكتبني المدى .
ومعنى المَدَى الغاية يُقال قِطعة أرض قدر مَدَى البصر وقدر مَدِّ البصر .
مَدَى الْحَيَاةِ : طَوَالَ الْحَيَاةِ عَلَى مَدَى الأَيَّامِ .
بَلَغَ المَدَى : الْحَدُّ الأقْصَى .
وهي يكتبها هذا المدى الذي لا تعرف حدوده ، وماذا يكتب وكيف وما نوع مادة هذه الكتابة ، فيأتي الجواب :
أسطورة حنين : أي يكتبها قصة مثيره تروى فيها العجائب والغرائب في أماكن وعوالم مجهولة . وتقودك الشاعرة من خلالها في سياحة فكرية خيالية تستحث فيها طاقتك الكامنة الى التفكير والتفكر في أمور ربما كانت غائبة عن ذهنك فتتمكن من تكوين صورة متكاملة عنها .
وأصابعها التي تمسكت وثبتت طوعا على الوتر، والأصابع لها لغة ودور كبير في الحياة ، وفي خطوطها وأشكالها وعَقْدها وبسطها دلائل كثيرة حسية ونفسية ودينية إلى غير ذلك .
لذلك قالت الشاعرة أصابعي المصلوبة في التفاتة موفقة في تعزيز مرادها في النص واعطاء صورة واضحة ومعبرة عن حالة تتمثل فيها الصبر الطويل على تحمل المعاناة والالم الذي كانت تقاسيه وعلى مدى عقود أو هو مستمر معها العمر كله .
وهذه الاصابع التي جعلت من نفسها وقفا ونذرا وتحجرت تمسكا بفتات الذكريات التي تذرها بالماضي البعيد الذي ما زالت آثاره ظاهرة عليها .
وكل نغمة تعزفها هذه الاصابع تنكأ الجراحات القديمة . وهي كناية عن محاولة لإثارة آلام الماضي مرة أخرى وتذكرها بما كانت تقاسي من جور وأذى .
وقد تجلت ابداعات الشاعرة في تصويرها لهذا الموقف وطريقة ربطه بالحدث الذي سبقه باسلوب سهل وسلس في غاية التمكن والاتقان .
فجائت هذه الصورة معبرة عن محطات متعددة في عمرها تلفها حالة من التصوير المطعم بالحزن بالرغم من قوة التعبير وصياغة المقطع بكل ما يحمله من هول المعاناة وطول الفترة الزمنية التي مرت من حياتها .
ثم في خظم الأحداث والسنين الثلاثين التي مرت كان يطوقها شعوراً غريبا وقاسيا الا وهو الشعور بالغصة والاحساس بالاختناق الذي يحرمها حتى من نسمات الهواء التي تحاول أن تملاء منها صدرها والأكثر من ذلك هي واقفة صامتة لا تسطيع أن تتكلم أو تعبر عن رأيها أو تقول ما تريد حتى الأحلام باتت موؤدة في أعماق روحها ، ولم يكن للتمائم أو غيرها اي نفع في تغيير ما ألمَ بها من مصائب ولم تجلب لها بصيص ضوء ولا بارقة أمل يهش لها الفؤاد لتبقى في ظلام دامس وسمائها مكفهرة لا ترى ضوء الشمس ولا نور القمر ، لذلك قالت الشاعرة معبرة بطريقة مجازية عن الموقف (ثلاثون بلا شمسٍ بلا قمرْ) .
وبقيت منغلقة منطوية على نفسها تتجرع طعم عزلتها ، ولكنها لم تنصاع لتأثير الظروف المحيطة بها ولم تركع لكل الشدائد التي حلت بها واستطاعت من تطوير قدراتها الفكرية والجسدية بشكل متناغم مع ذلك الظرف العصيب و كونت لنفسها ركيزة اسياسية تنطلق منها بما يتفق مع الحالة التي تعيشها ومع أهدافها في التحول المستقبلي وقدرتها على تحويل نظرتها الى نظرة ايجابية من أجل قيمها ومبادئها في الحياة فبعد كل هذا التشرنق قالت إنها لم تبع سرجها ولم تذبح جوادها ولم تترجل عن صهوته ولم تترك الطقوس الدينية والقيم المقدسة والتي أجملتها في الصوم والصلاة في التفاتة بديعة وصياغة جميلة .
ولم تترك بحثها عن السبل التي تقودها إلى استشفاف حقائق الامور وتلمس طريقها في النور الذي يشع في أعماقها ويدلها على الطريق المؤدي إلى الصواب لذلك كان التعبير بجملة من الحقائق المختلفة كل واحدة تعبر عن جانب إيجابي وله أثره في الحياة ويكمل بعضها البعض كما أسلفت في ذكر السرج والحصان تعبيرا عن الشجاعة والثبات ، والصوم والصلاة في اشارة الى التمسك بالقيم الدينية المقدسة ، والشمس والبصر التي تعبر عن إبصار الحقائق ومعرفتها والبحث عنها لأنها أكسير الحياة وسر الوجود . والبحر الذي يمثل العظمة عند الشاعرة ليس كما يفسره البعض أنه عبارة عن ماء كثير في مكان واسع وعميق شديد الملوحة ، ولأن البحر يمثل العطاء والخير وكشف الأسرار وكل مظاهر الهيبة وركوب المصاعب فعندما يهيج ويهدر الموج في هذه الساعة يعبر عن غضبه وصراخه وتتغير الحالة عندما يكون هادئاً ساكنا يفيض بالمشاعر والحنان ويعكس صورة جميلة تأخذ بالألباب ، فالبحر هذا العالم الواسع الشاسع الذي يقف بكل هيبة وكبرياء فهو بكل ما فيه يعتبر ثورة في كل شئ ، فقد أوحت هذه الصور للشاعرة مقاربة بينه وبين قلبها النابض بالحيوية والثبات وعمق الإرتباط الروحي الأزلي الذي لا تعرف له بداية والذي سيستمر الى نهاية المطاف .
أما امنياتها فهي عالية في عنان السماء مخزونة في الغيوم وبكل ما تحمل من رعود وبروق ثم تأتي بالخير والبشر
وهذه الدموع التي انهمرت من عينيها هي دموع الشوق والحنين الممزوجة بالكبرياء وعزة النفس ولم تكن لتذرفها لولا صمتها الطويل وثقل الشدائد التي مرت عليها طوال السنين ولشدة هول ما اجتمع عليها وصفته قائلة (والدم في المحاجر ) وعندما جاهرت به تفجر كأنه بركان ينفث حممه بغضب لا يُواجه ، ثم سكنت عاصفتها المدوية فلا تسمع إلا هسيسا بما يشبة همس كلام غير مفهوم بسبب ما خلفه هول الموقف فبقي جسدها يرتجف وكانه سعف نخيل يختلج من مرور الرياح خلاله .
لكن هناك هاجس الفرح والبشرى لن يموت إنه ما زال يناديها بنفس البراءة القديمة وصوت الطفولة البريئة الغريرة يداعب ظفائرها الجميلة ذات الأشرطة البراقة الزاهية مذكراً إياها بالأحلام السعيدة التي كانت ترتسم على محياها وبقدوم الربيع الذي سيغطي السهول بالخضرة والزهور .
بالرغم من كل الظروف القاسية وعاديات الزمن لم تنسى تراتيلها التي تسلي الروح بها فهي غارقة في بحر أحلامها وهي ترتلها وتشمها نسمة فجر ولأنها تتأمل ما سياتي به الغيب من خير وسؤدد عبرت عنه بالتميمة اللؤلؤية في بحرك ، إيماناً بالغيب لا بالتميمة لأنها تعلم علم اليقين أن التمائم لا تأتي بخير على الإطلاق . ذلك لأن الشاعرة تؤمن بالحقائق ولا تؤمن بالأساطير ولكنها تذكر هذه التعابير والأوصاف على سبيل المجاز لأن المواقف الأدبية والنصوص الشعرية تقتضي منها ذلك .
ثم يتحول الخطاب وتتغير نبرة الكلام الى عتاب جميل وحوار لطيف يطغى علية الألفاظ الرقيقة وتتخلله صيغ الحنان والعطف والحب العذري الممزوج بدموع الحنين الدافئة التي تبشر بِطَلْ الربيع المنعش الذي يروي ظمأ الحياة .
لذلك ختمت الشاعرة قصيدتها بمقاطع جميلة جدا ومعبرة عن صورها بطريقة خيالية مؤثرة للغاية
في غيابك تشرب الجبال بقايا الجفون
تسربلني تعاويذك .. في انتظار عزف المطر
ويخفق الوريد لذكرى حلم
لقد أجادت الشاعرة في اختيار العنوان والمطلع الإستهلالي المؤثر فأعطت النص حيوية وشاعرية قوية ومثيرة لانتباه المتلقي .
كذلك يجب علينا أن نذكر نقطة مهمة لصالح الشاعرة ليس في هذا النص وإنما في عامة نصوصها أنها تسعى دائما وتركز على الألفاظ والمعاني المتداولة والسهلة الفهم التي تعطي النص سلاسة وجمالية أكثر لتصل من خلالها الى أكبر عدد ممكن من القراء والسامعين لكي يعم النفع وتتم الفائدة وتصل الرسالة المقصودة من النص .
كما وإنها ترصع عباراتها بجواهر ودرر البلاغة بطريقة سلسة ولطيفة لتضفي جواً أدبيا يستهوي المتلقي ويمنحه الفرصة بمواصلة القراءة بعيدا عن الملل وتشابك الأساليب الصعبة التراكيب والمعقدة الصياغة .
الصور الخيالية وتأجج المشاعر والمواقف المؤثرة والتي رُسِمَت بطريقة بديعة للغاية مثل :
(أصابعي المصلوبة على الوترْ) (كل نغمة تنكأ الجراح العتيقة)(أعدُّ اهداب تشرنُقي )
(والدمُ في المحاجرِ يجاهرُ البراكينَ)(الغيب تميمة الروح في بحرك)(نديم الروح والقمر)
كانت حاضرة وبشدة في النص يضاف إلى ذلك المطلع الإستهلالي الجميل والخاتمة الفريدة صياغةً وتعبيراً .
أعطت الشاعرة مساحة واسعة لتأمل المقاطع ورسم الصورة الذهنية لدى المتلقي وذلك من خلال استعمالها الطريقة السهلة في العرض وعدم حشد الافكار والمعاني دفعة واحدة في النص .
لم تحدد الشاعرة وكعادتها دلالاتها الزمنية والمكانية وإنما تركتها للمتلقي ليتوسع فيها بخياله .
هذه القصيدة تنوعت مضامينها وتعددت إشاراتها والتي كان لها الأثر البالغ في التعبير عن كثير من المواقف في الحياة وأعطت الأمل الكبير من أجل الوصول الى النتائج الحتمية للصبر والثبات على المواقف ومعالجتها بطريقة إيجابية .
وفي الختام تحية وتقدير واحترام للشاعرة رفيف الفارس على نجاحها في هذا النص المتميز .

عن المدون International Literary Union Magazin مجلة إتحاد الأدباء الدولي

مدون عربي اهتم بكل ماهوة جديد في عالم التصميم وخاصة منصة بلوجر
»
السابق
رسالة أقدم
«
التالي
رسالة أحدث

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد