علي البدر
علي البدر والتحليل النقدي لقصة "شجرة موسى" للقاص والروائي عبد شاكر
1) ألتحليل النقدي:
يعكس القاص والروائي عبد شاكر شخصية إنسان فقير يعيش على قوت يومه. ونجد في السرد تكثيفاً لافتاً على تلك الشخصية مبتعدًا عن اسلوب الحوار الذاتي مع النفس monologue أو الثنائي dialogue وإنما السرد باسلوب الشخص الثالث third person حيث تحول السارد إلى راوية ومراقب واصف للحدث narrator. وجملة موسى الحزين التي بدأ بها القاص، هي ومضة flash point أضاءت وكشفت صفات عديدة قبل صفة الحزن. ويبدو أن ساكني المنطقة التي يسكن فيها يرصدون كل حركاته ويسجلون كل معاناته، رغم أنه من "عامة الناس ويسكن في حي شعبي منسي ولا شيء يميزه عن الآخرين، فهو مثلهم يحمل تقاطيع وجوههم المتعبة." ويكشف لنا القاص صفة أخرى التصقت به هي لأنه " ، لم يتوظف في دوائر الدولة ولو بصفة عامل خدمات...".
وتكون صفة " موسى الكاسب " متداولة ومقبولة عندما يكون الاخرون الذين يسكن هو في منطقتهم، موظفين وهذا غير ممكن في منطقة منسية. وكان فاشلاً في الدراسة بسبب تعقده " من درسَي الرياضيات والإنكليزية." و "كنّاه الناس بأبي حسن، وعلى وقعها أمضى حياته بعادية ورتابة." حيث تزوج مثل الآخرين "وأنجبت له زوجته ثمانية من البنين والبنات.". وبعد احتلال العراق" نال لقبًا جديدًا أطلقهُ عليه البعض من الفقراء المنسيين -موسى حواسم-...".
وعند رجوعه من محافظة ميسان "ْ لحضور مأتم أمه التي توفيت بمرض السرطان..."، كان الجيران قد حَضَّروا له لقب موسى الحزين عندما " حضر واطّلع على هول تلك الفاجعة القاتلة وشارك الجيران حزنهم وعجزهم عن انتشال جثث أفراد عائلته.... حيث سقوط البيت على من فيها بسبب الأمطار الغزيرة. ولم يستطح احد إخراجهم من تحت الأنقاض عندما بقوا مدفونين تحتها. وعندها قرر موسى أن يجعل من تلك الأنقاض مقبرة لهم بعد أن سيّجّ محيط البيت بأوتاد خشبية وخيوط واهية وهام على وجهه محملا بالحزن والذكريات المُرّة. ومرت عشر سنوات وتغيرت وتطورت المنطقة عدا تلك المقبرة الموحشة، التي قللت من وحشتها" شجرةٌ كبيرةٌ وارفةُ الظلالِ كان الاهالي قد زرعوها بجانب تلك الانقاض إكرامًا لأرواح موتى البيت المتداعي في اليوم المطير الذي لا ينسى.
ويتفاجأ" الأهالي بتردد موسى الحزين على المكان أكثر من مرة في الشهر" وكما يبدو أنه تركها كل هذه المدة، حيث يستغل الناس وجوده و " اقترحوا عليه ان يبنوا له البيت فرفض، جلَّ ما طلبه منهم ان يتركوه لحزنه.... الذي قاده الى البكاء والنحيب والاستذكار المستمر قبل أن تحصل له تلك الجدحة التي سلبت عقله ذات يوم، ليصبح محل شفقة الآخرين وسخرية الصغار الشياطين." وهكذا جُنَّ موسى وبات عرضة للسخرية من قبل الأاطفال ". أصبح موسى مجنونـًا وتحول لقبه الى موسى الخِبل." ونلاحظ هنا اكتسابه لقباً جديداَ ربما يكون الأخير. لكنه فجأة " يشعر بصفاء ذهن عجيب، استعاد من خلاله شريط حياته، مُذ ليلة زفافه، حتى اليوم الذي رزقه الله بالمولود الثامن... بكى طويلاً و حين نفد منه الحزن أخذ يتمتم ضاحكـًا، ثم تحولت التمتمة الى ضحك مسموع وبريء، .... أطلق ضحكات من القلب، ضحكات صادحة بريئة، رأى فيها الحياة وهي تمتد أمامه، وقد فتحت له ذراعيها لتدخله الى بيته الجديد، بواجهته الرائعة، وبالدكاكين الثلاثة الكبيرة، التي شغلها أولاده الكبار، وبالسيارة الفارهة الواقفة عند باب البيت، وبالعائلة التي كبر صغارها..... ثم سرعان ما خرج ليجلس تحت ظِلال تلك الشجرة الكبيرة منتشيًا، متمايلاً، مصفقـًا، مغنيـًا، ...... انتبه الى جذع وأغصان الشجرة فوجدها تتمايل يمينًا وشمالاً لتشاركه فرحة الحياة ..". وهكذا تغيرت شخصيته من إنسان مجنون إلى إنسان في غاية السعاة وبات منسجما مع مجموعة كبيرة من العصافير الملونة التي ملأت الاغصان زقزقة ورفرفة بأجنحتها الصغيرة. وحدها تلك الشجرة المهجورة هي من حولت جنون ذلك الرجل المكسور إلى إحساس بهيج بالحياة.
لقد حاول الروائي والقاص عبد شاكر التعاطف مع شخصية يفترض أن تكون مهمشة إجتماعياً وهي الحواسم وهي تلك الطبقة التي تستغل الظروف خاصة ضعف أو عجز الحكومة لتستولي على أماكن تعود ملكيتها للآخرين أو للدولة. وهؤلاء الأفراد لم يكونوا مُرَحَّباً بهم في المنطقة التي يسكنونها لأنهم غرباء في الغالب حيث يتعامل أهل المنطقة بتوجس معهم خاصة في الوهلة الأولى. ونتساءل: هل وجدنا مثل هذا في القصة؟ ويأتي الجواب بالنفي حسب معطيات أحداث السرد، حيث نرى التعاطف التام مع البطل من قبل المجتمع الذي بدا وكأنه أهم شخصية في الوجود الإجتماعي حيث انهالت عليه الألقاب بكل كرم مع تفصيل سبب اكتساب اللقب حسب الظروف المحيطة ورغم ذلك نراها تُكرَّر بانسيابية وكرم " جلس موسى الكاسب أو موسى حواسم أو موسى الحزين أو موسى الخِبل تحت الشجرة....". وبالتأكيد من الممكن الإستغناء عن هذا التكرار غير الضروري.
وعندما تحصل كارثة لأي فرد، نرى الآخرون يتعاطفون معه ويشاركونه حزنه لكننا نرى العكس هنا " حتى إذا ما حضر موسى واطّلع على هول تلك الفاجعة القاتلة، شارك الجيران حزنهم وعجزهم عن انتشال جثث أفراد عائلته فقرر أن يجعل من تلك الأنقاض مقبرة....". ويبدو هنا أن الجيران أكثر حزناً وإحساساً بهول الكارثة. ولو حاولنا إيجاد تبرير لهكذا إشكال أو تناقض contradiction بإفتراض الروابط الإجتماعية بين موسى ومحيطة متجانسة تماما لدرجة إحساسه بأنه منهم تماماً، سيكون افتراضاً ضعيفاً لأن تأثير الكارثة على صاحبها مختلف بالتأكيد.. ونلاحظ أيضاً جملة" فقرر أن يجعل من تلك الأنقاض مقبرة...". ونتساءل: من هو ليقرر زرع مقبرة وسط حي سكني؟ وهل موافقة الجيران معقولة وقابلة للتصديق؟ ويبدو هنا تعاطف الجيران معه حيث زرعوا شجرة لتقليل الوحشة من وجود المقبرة.
إن العائلة في مجتمعنا متعودة على زيارة موتاها فهل يعقل إن موسى يترك مقبرة عائلته " بعد عشرة من الأعوام الحزينة، تغيرت من خلالها ملامح واشكال الحي والبيوت الا انقاض بيته....... وفوجئ الأهالي بتردد موسى الحزين على المكان أكثر من مرة في الشهر.". وعنصر المفاجأة بالتأكيد بسبب غيابه الطويل حيث فاجأهم حضوره. أين ذهبت صفة موسى الحزين؟ هل يعقل ترك موتاه كل هذه المدة ليأتي بعدها وينوح على عائلته؟ والغريب أن الأهالي "اقترحوا عليه ان يبنوا له البيت فرفض، جلَّ ما طلبه منهم ان يتركوه لحزنه.." ونتساءل: لماذا رفض؟ وأين ذهب بفترة العشر سنوات التي غاب بها؟ ولماذا غاب وترك موتاه وسط أنقاض موحشة؟ وعند مجانبة الحقيقة، تكون فكرة المقبرة مرفوضة وغير معقولة والسبب هو إمكانية إخراج الجثث من تحت الأنقاض فهو لم يسكن في الطابق الأسفل من عمارة متعددة الطوابق وإنما في " هيكل بيت متروك أكمله بمواد غريبة حتى حصل له على باب وشبّاك وسقف متداع..". أجل.. باب وشباك ونحن هنا نسأل عن السقف المتداعي المعرض للانهيار بأية لحظة، وعليه قد يكون ألواحاً معدنيةً خفيفة مغطاة بنايلون ومثبته بأحجار تحيطها. ومهما يكون السقف فهو ليست بناء ينهدم ويدفن ماتحته لدرجة العجز التام عن إخراج الضحايا. وأي إنسان هذا الذي يصبر على موتاه وهم تحت التراب من دون محاولة دفنهم في المقبرة؟
ويؤدي به الحزن والبكاء على عائلته إلى الجنون " أصبح موسى مجنونـًا وتحول لقبه الى موسى الخِبل.... شريط طويل من أحداث ممتدة، لا سبيل للهرب منها. بكى طويلاً وهو يتوقُ لاسترجاع حيوات أحبتهُ المفقودين. حين نفد منه الحزن أخذ يتمتم ضاحكـًا...... ضحكات صادحة بريئة، رأى فيها الحياة وهي تمتد أمامه، وقد فتحت له ذراعيها لتدخله الى بيته الجديد، بواجهته الرائعة، وبالدكاكين الثلاثة الكبيرة، التي شغلها أولاده الكبار، وبالسيارة الفارهة الواقفة عند باب البيت، وبالعائلة التي كبر صغارها....". تصورات إنسان فقد عقله استطاع القاص عبد شاكر النفاذ للعقل المفقود وهذا وارد ضمن المحاكات السردية ولكن من غير الوارد أن يسترجع المجنون عقله و " يشعر بصفاء ذهن (عجيب)
، استعاد من خلاله شريط حياته، مُذ ليلة زفافه، حتى اليوم الذي رزقه الله بالمولود الثامن.....". إن كلمة "عجيب"، تدل على عدم التصديق لمن كتبها، فكيف نصدق نحن استرجاع المجنون لعقلة وامتلاكه لأرق الأحاسيس خاصة عندما" انتبه الى جذع وأغصان الشجرة فوجدها تتمايل يمينًا وشمالاً لتشاركه فرحة الحياة مع مجموعة كبيرة من العصافير الملونة التي ملأت الاغصان زقزقة ورفرفة بأجنحتها الصغيرة....". ها هو الان بكامل قواه العقلية والفضل إلى" الشجرة المهجورة، هي من حولت جنون ذلك الرجل المكسور إلى إحساس بهيج بالحياة.". ويبدو أن الشجرة المدللة التي زرعها الناس واعتنوا بها لترد الوحشة والتي اعادت العقل لموسى المجنون قد أصبحت مهجورة وأعتقد أنها ظُلِمَتْ. إن أبسط تعريف للجنون هو : عدم القدرة على السيطرة على العقل أو هو مجموعة من السلوكيات الشاذة التي تميز أنماط من السلوك الشاذ التي يقوم بها الاشخاص بدون وعى وادراك ورغما عن ارادتهم والذي يؤدي إلى انتهاك المعايير الاجتماعية وقد يصبح هؤلاء الأشخاص يشكلون خطرا على أنفسهم أو الآخرين. والجنون قد يكون ناتجاً من كبت يؤدي إلى قلق ثم المرض النفسي الذي قد يؤدي إلى الجنون حسب نظرية Sigmund Freud رائد مدرسة التحليل النفسي. ولم نسمع أن مجنوناً استرجع عقله بالطريقة التي مرت علينا على الأقل. من هذا التعريف، أصبح من الظروري استعمال صفة "الخبل" بدلاً من "المجنون"
لقد بدا الأسلوب السردي للقصة كجزء من سرد روائي مبتعد عن تكنيك القصة القصيرة المعقد وقد حاول القاص إبعاده عن السرد الحكائي. ولم يكن لدينا أي حوار في القصة كما بيننا ، فقد سيطرت فكرة إيصال الثيمة إلى المتلقي وهي ضرورة الإنتباه إلى الشرائح الفقيرة وتوفير مستلزمات الحياة الكريمة الآمنة للفقراء وهذا ما لاحظته في معظم كتابات عبد شاكر التي اتصفت بالميول الإنسانية التي تركز على عدم هدر كرامة الإنسان وبالتالي تعميق ظاهرة الإغتراب alienation عنده ، حسب التفسير الإقتصادي في تحريك وتكوين شخصية الفرد. لقد أعطى القاص والروائي عبد شاكر البعد الزمكاني تصوراً واضحاً ومقبولاً هو ضياع أو شبه ضياع الشرائح الفقيرة واضطرارها إلى السكن في أرض الغير من دون إذن ومقبولية. وأخيرا لابد من الإشارة إلى عتبة القصة "شجرة موسى"، لنلاحظ أن هذه التسمية تتماشى مع مبدأ الحواسم فهي ليست ملكه وهو لن يزرعها أو يعلم بوجودها إلا لاحقاً.
لقد امتازت هذه القصة بانحيازها نحو الحواسم وكأنها صرخة من أجل الإلتفات إلى الطبقات المسحوقة من المجتمع ، وعندما تفلت الأمور عند ضعف السلطة وارتباكها خاصة ضمن احتلال يتحدى كل المعايير الإنسانية الأخلاقية، نرى المتنفذين يستحوذون على القصور والأراضي ويبقى المحرومون مشتتين قد يضطرون إلى العيش على فتات موائد الأغنياء أو يبحثون وبإصرار في القمامة كما نرى بأيامنا الآن.
ألقاص والروائي عبد شاكر تحياتي اليك ودام وجودك بيننا..
علي البدر
قاص وناقد أدبي وتشكيلي
2) القصة:
موسى الحزين، رجل من عامة الناس، يقطن في حي شعبي لمدينة من المدن المنسية، لا شىء يميزه عن الآخرين، فهو مثلهم يحمل تقاطيع وجوههم المتعبة، ويتمثل سمرتهم التي لوحتها الشمس. امتاز عن الآخرين بكمّ الحزن الهائل الذي كانت تنوء به روحه المعذبة. كان من المواطنين الذين يتدبرون معيشتهم يومًا بيوم، لهذا أطلق الناس عليه تسمية موسى الكاسب، فهو مُذ ترك الدراسة في الصف الخامس الابتدائي متعقدًا من درسي الرياضيات والإنكليزية، لم يتوظف في دوائر الدولة ولو بصفة عامل خدمات، لهذا أكلت المهن الشاقة جسده مثلما أكلت الحروب حياته وتركت في ذلك الجسد أكثر من انكسار أو تشكيلة من ندوب لا سبيل لشفائها. كنّاه الناس بأبي حسن، وعلى وقعها أمضى حياته بعادية ورتابة. تزوج مثل الآخرين وأنجبت له زوجته ثمانية من البنين والبنات. نجح في العثور على هيكل بيت متروك أكمله بمواد غريبة حتى حصل له على باب وشبّاك وسقف متداع. حدث هذا في الفترة التي أعقبت الاحتلال، إذ نال لقبًا جديدًا أطلقهُ عليه البعض من الفقراء المنسيين -موسى حواسم- لكنه سرعان ما حصل على لقبٍ آخر هو موسى الحزين عقب الفاجعة التي تعرضت لها عائلته ضحى أحد النهارات الشتوية المطيرة التي ابتلّت فيها أرصفة الشوارع حتى الغرق واشتدّ فيها عصف الريح بما يشبه الإعصار. قبلها بيوم كان موسى حواسم قد سافر الى ميسان لحضور مأتم أمه التي توفيت بمرض السرطان. كان ذلك اليوم شديد المطر قد شهد تداعي البيت الذي تقطنه عائلة موسى وسقوطه على الجميع وقتلهم دون أن يعلم أحد من فقراء الحي بحقيقة ما جرى إلا من بعض العوائل القريبة منهم، حيث استطاعت النسوة بصراخهنّ العالي أن ينبهنَ الآخرين لفاجعة سقوط البيت على قاطنيه لكن بعد فوات الأوان. غرق الحي بأكمله بمياه الأمطار، انتشر الطين في كل الأماكن فتعذر على الجميع إنقاذ الجثث من تحت خرائب الهيكل المتداعي. حتى إذا ما حضر موسى واطّلع على هول تلك الفاجعة القاتلة، شارك الجيران حزنهم وعجزهم عن انتشال جثث أفراد عائلته فقرر أن يجعل من تلك الأنقاض مقبرة لهم بعد أن سيّجّ محيط البيت بأوتاد خشبية وخيوط واهية وهام على وجهه محملا بالحزن والذكريات المُرّة. كل من رأى موسى حواسم قرر أن يُطلق عليه تسمية -موسى الحزين- بسبب تحوله شكلاً وروحًا الى لوحة حزن مقيم تظللها الدموع.
بعد عشرة من الأعوام الحزينة، تغيرت من خلالها ملامح واشكال الحي والبيوت الا انقاض بيته التي كانت تعطي للمكان وحشة مخيفة، لولا شجرة كبيرة وارفة الظلال كان الاهالي قد زرعوها بجانب تلك الانقاض إكرامًا لأرواح موتى البيت المتداعي في اليوم المطير الذي لا ينسى. فوجئ الأهالي بتردد موسى الحزين على المكان أكثر من مرة في الشهر. اقترحوا عليه ان يبنوا له البيت فرفض، جلَّ ما طلبه منهم ان يتركوه لحزنه. هذا الحزن الذي قاده الى البكاء والنحيب والاستذكار المستمر قبل أن تحصل له تلك الجدحة التي سلبت عقله ذات يوم، ليصبح محل شفقة الآخرين وسخرية الصغار الشياطين. الصغار اللذين لم يدركوا عظم فاجعته. أصبح موسى مجنونـًا وتحول لقبه الى موسى الخِبل، وانقسمت حياته الى شطرين، شفقة الكبار وسخرية الصغار، بينما اتخذ من تلك الشجرة مأوى له ولأحزانه واستذكاراته وجنونه. تغيرت أحوال الناس والبيوت وارتفعت الأبينة والمحلات ودخلت السيارات الفارهة الى تلك الأحياء، وتحول جرب البعض الى دعة وغِنى. وموسى الخِبل يلازم تلك الشجرة الوارفة الظلال دون أن يعلم محاولات الكثيرين للاستحواذ على خرابته بغية تحويل قطعة أرضها الى بيت بدكاكين عسى ان ينسى الناس مسألة كونها مقبرة فقر جماعية لأسرةٍ معدمة. ذات نهار ربيعيّ، بينما الناس منغمسون في ملذاتهم، لاهون في حيواتهم الضاجّة بالصور والاحداث، جلس موسى الكاسب أو موسى حواسم أو موسى الحزين أو موسى الخِبل تحت الشجرة الكبيرة وهو يشعر بصفاء ذهن عجيب، استعاد من خلاله شريط حياته، مُذ ليلة زفافه، حتى اليوم الذي رزقه الله بالمولود الثامن. وجد نفسه يعيش تلك المرحلة من حياته بكل تفصيلاتها الكبيرة والصغيرة. الحب، الأحلام، الدفء، الكدح، الخصام، الأولاد، زوجته المغرقة بالطيبة والعادية، الشبع، الجوع، الأعياد، المناسبات العامة، المآتم والأفراح، ليالي الخوف، الموت والحياة. شريط طويل من أحداث ممتدة، لا سبيل للهرب منها. بكى طويلاً وهو يتوقُ لاسترجاع حيوات أحبتهُ المفقودين. حين نفد منه الحزن أخذ يتمتم ضاحكـًا، ثم تحولت التمتمة الى ضحك مسموع وبريء، ثم ضحك عالي النبرات. أطلق ضحكات من القلب، ضحكات صادحة بريئة، رأى فيها الحياة وهي تمتد أمامه، وقد فتحت له ذراعيها لتدخله الى بيته الجديد، بواجهته الرائعة، وبالدكاكين الثلاثة الكبيرة، التي شغلها أولاده الكبار، وبالسيارة الفارهة الواقفة عند باب البيت، وبالعائلة التي كبر صغارها. تتوسطهم أمهم التي أصبحت اكثر طيبة ووقارًا. كل شيء في البيت كان جميلا. الأبواب، الشبابيك، الأثاث، الصور، اللوحات، الغُرف، الأسرّة، الحمّام، الأجهزة الكهربائية الحديثة. احتضن الجميع بدفء ثم سرعان ما خرج ليجلس تحت ظِلال تلك الشجرة المهجورة هي من حولت جنون ذلك الرجل المكسور إلى إحساس بهيج بالحياة منتشيًا، متمايلاً، مصفقـًا، مغنيـًا، متلذذًا بتفصيلة حياة لم يذق مثل حلاوتها دهرًا. انتبه الى جذع وأغصان الشجرة فوجدها تتمايل يمينًا وشمالاً لتشاركه فرحة الحياة مع مجموعة كبيرة من العصافير الملونة التي ملأت الاغصان زقزقة ورفرفة بأجنحتها الصغيرة.
ليست هناك تعليقات :