رمضان كامل
الإبداع تجاوزللسائد فلا يكون إلا خارج القوالب للأستاذ إبراهيم البليهى
إن الذين تتبرمج عقولهم على الاتباع يندر أن يتحرروا من هذه البرمجة لذلك نجد أن الأكثرية من المبدعين في كل العالم وفي جميع المجالات قد انفردوا بأنفسهم في مرحلة مبكرة فانطلقوا في تكوين ذواتهم تكوينًا مستقلا حتى امتلأت قابلياتهم بما هو جديد ومغاير ففاضت فكرًا ومعرفةً وإبداعًا...إن الإبداع في كل فترات التاريخ وعند كل الأمم يتجسَّد في حالات فردية استنثائية لذلك فهو المستوى الإنساني سوف يؤكد ذلك غاية التأكيد ففي مقال سابق اتضح لنا أن أكثر الفائزين بجائزة نوبل في الأدب كانوا من خارج التأطير التعليمي أما في هذا المقال فنورد شواهد أخرى من المبدعين فأديب روسيا الأشهر تولستوي لم يلتحق بأية جامعة وإنما انفرد مبكرًا: يقرأ ويتأمَّل ويتعمَّق ويقارن ولا يكتفي بأن يقارن بين المجتمعات في وقته وإنما عاد إلى تاريخ الأمم ليقارن بينها خلال التاريخ فانتهى إلى رؤية عميقة في فلسفة التاريخ وفي
طبيعة الإنسان لقد كوَّن نفسه بنفسه ففاض إبداعًا بالغ الروعة والغزارة والعمق وصارتالأمم تنقل إبداعاته إلى لغاتها المختلفة بوصفه من حكماء الإنسانية العظام.
إن أمامي حشْدٌ من أسماء المبدعين الذين صنعوا أنفسهم بأنفسهم بعيدًا عن القولبة التعليمية التي تطفئ النوازع الفردية وتذيب الأفراد في اتجاه التماثل والامتثال ولكن لن تتسع المساحة المتاحة لهذا المقال إلا لبعض الأسماء.
كنت في المرحلة الثانوية حين قرأت كتاب (الخمور الفكرية) للمبدع المجري آرثر كوستلر ولقد شدَّتني أفكاره بقوة فصرت أبحث عن مؤلفاته. إنه روائي مدهش ومفكر عميق وناقد بصير ومناضل صادق التحق بكلية الهندسة لكن اهتماماته التلقائية المتأججة لم تكن اهتمامات مهنية وإنما كانت اهتمامات إنسانية عالية فَتَرَك الدراسة مبكرًا وتفرغ للتأمل والبحث والنشاط والكتابة لقد بنى نفسه بنفسه فأصبح معدودًا في طليعة مثقفي العالم.
أما المبدع الروسي الشهير مكسيم جوركي فلم يحصل حتى على شهادة المرحلة الإبتدائية برؤيته النافذة وسعة ثقافته وعمق تفكيره وروعة إبداعه وقدرته على فحص الواقع وفهمه وتجاوزه صار معدودًا في طليعة المبدعين في العالم إن قصة حياة جوركي تستحق التوقف الطويل والتأمل العميق فهذا المبدع عاش منذ طفولته حياة الفقر والجوع فكابد الحياة مبكرًا لقد عانى وكافح فواجه المشاكل بنفسه منذ طفولته وأدى ذلك إلى نضج مبكر وإلى إحساس عميق بالحياة والأحياء إن هذه المواجهة المبكرة مع متطلبات الحياة هي المدرسة الحقيقية وهى الجامعة المؤثِّرة التي تصوغ شخصية الإنسان لتجعله على مستوى المسؤولية وكما قال المفكر
الناقد محمود أمين العالم فإن:(الإبداع إنما يستمد جذوره أساسًا من الخبرة المعيشة وما يواجهها من ضرورات وإشكاليات وعقبات) إن أهمية الاحتكاك المبكر بمشكلات الحياة تستوجب مراجعة جذرية للرؤية السائدة في التربية. إن إدخال الأطفال والمراهقين في معترك الحياة مبكرًا في الحدود التي تتحملها بنيتهم هو اتجاهٌ أساسي وضروري غير أن هذا المطلب التربوي الحيوي مازال محجوبًا برؤى ظَهَرَ خطؤها وممارسات جرت بها العادة فلم تجد من يوقفها ولكن سوف يكتشف التربويون والعالم أجمع بأن إبعاد الأطفال والمراهقين عن معترك الحياة والاكتفاء بحشرهم في الصفوف المدرسية قد جنى عليهم أكبر جناية فأبقاهم مغموسين في الفجاجة والهشاشة مع افتقار شديد إلى خبرات الحياة الأساسية.
أما المبدع الفرنسي الشهير إميل زولا فلم يحصل حتى على شهادة المرحلة الثانوية فقد انشغل عن الدراسة بالانغماس في قراءة روسو وهوجو وبلزاك وغيرهم فكوَّن نفسه بنفسه تكويناً متيناً ثم انتقل من الرومانسية إلى الواقعية لقد أبدع في المجال الروائي وفي مجال النقد وكان من كُتَّاب المقالات البارزين وهو صاحب المقال الشهير: ( إني أتهم ) لقد قاد المثقفين لإصدار بيان يدين الأحكام الجائرة ويطالب بالعدل والوضوح والشفافية.
ليست هناك تعليقات :