الفائز الثاني
شمواه
فيحاء نابلسي\ سوريا
شامواه
يبدو أن
السترة الجديدة لبسته قبل أن يلبسها !!
حدّق بالمرآة
مستغربا الخاطر الذي طاف برأسه , هزّ
رأسه بعدما تذكّر أن هذا الكلام ليس من
بنات أفكاره وإنما صدى كلام صديقه أحمد
البارع في حدّ الابداع في تفصيل تعليق
مناسب على قياس كل موقف .
" يبدو أن
الهونداي ركبت أبا سعيد قبل أن يركبها !!
" ... كان هذا تعليقه على
جارهم أبا سعيد الذي تجاوزهم بسيارته
الهونداي الجديدة ملوحا لهم بكفه من خلف
الزجاج ماضيا في سبيله .
حلّ عرى
الأزرار ووقف يتأمل السترة الشامواه
العسليّة منسدلة على بدنه بأناقة .
انكفأ على
نفسه يسترجع انفعالاته , حالما
ارتدى السترة الجديدة وعدّل ياقتها على
عنقه أحس برقبته تشرأبّ وتعلو إلى حدٍ ما
, حتى كتفيه انفردا واستويا
باعتدال ألق بعدما ألِفَ انحناءهما عمرا
. ربما فطن جسده إلى ضرورة
الانسجام مع اللباس الجديد فغيّر وبدلّ
من حالته . مع أنّه ليس
جديدا بالمعنى الكامل , هو
جديد عليه هو فقط , لكنّه
يدرك تماما أن رجلا غيره لبس السترة دهراً.
لا يدري حقا إن كان صاحبها قد
لبسها أم أنها هي التي لبسته أيضا !
ضحك من خاطره هذه المرّة وألقى
بنفسه على الأريكة . مرّرَ
كفّه على الجلد المخملي الملمس متحسساً
ملمسه . ليس ناعما كالمخمل
ولا خشنا كالجوخ , هو بين
هذا وذاك . هل يعقل أن هذا
كان جلد ظبي يسرح في البراري ؟ سلبوا منه
رداءه وباعوه إلى أولي النعمة وعاشقي
الترف !!
هي ليست قديمة
بالمعنى الحقيقي أيضا , يبدو
أن صاحبها ملّها على الأرجح وتخلّى عنها
لقاء سترة جديدة . يظهر
خدشٌ مكان الكوع على الكمّ الأيسر ,
لكنه لا يشوه منظرها ,
أولئك المترفون يمكنهم استبدال
أي شيء بدل أن يكلفوا أنفسهم عناء إصلاحه
.
لعلّها كانت
ملكا لرجل أعمال فاحش الثراء , تعجز
ذاكرته عن حصر ما لديه من ملابس , لعلّه
حضر بها اجتماعات هامّة في فنادق فخمة
وقّع خلالها على صفقات تساوي كلّ ما جناه
رجال عائلته في حياتهم كلها . أو
ربما كانت لشخصية سياسيّة رفيعة المستوى
علقَت صلافته في حاشيتها فتسللت إليه
وجعلت ظهره يشتدّ وعوده ينتصب !!
لا يستبعد
أيضا أن تكون لأحد الموسرين تبرع بها على
أثر نوبة مشاعر إنسانية عارمة , رجاء
أن تصل لأحد المعوزين , لكنها
عرّجت على تاجر ماهر فجعلها بضاعة .
أيّا كان ,
إنها له الآن , تهبه
الدفء والغرور وأشياء أخرى .
قلّب البطانة
الداخليّة اللامعة وتأمل علامة الصنع .
لابدّ أن ثمنها وهي جديدة
يساوي راتبه كاملاً لسنتين أو ربما أكثر
, من يدري ؟
هو ليس معوزا
مدقع الفقر ,وقد استطاع
شراءها دون أن تلجأه هذه الصفقة إلى
الاستدانة بقية الشهر .
لطالما استكبر
على الألبسة الأوروبية المستعملة وعدّ
شراءها إهانة ولكننّا في زمن تتغيّر فيه
كل الثوابت .استطاع أن
يقنع نفسه بعبارات بسيطة , طالما
أننا نرضى بأفكارهم ورؤاهم المستهلكة
فعلامَ نتكبر على سقط متاعهم ؟ اقتراض
اللباس أهون من اقتراض الفكر على أي حال
.
تململ فيها
وهو يتفحص جيوبها الخارجيّة والداخليّة
المخفيّة , ليس لديه ما
يملأ به كل هذه الجيوب .... أضحكه
الخاطر , هبّ واقفا من جديد
يتأمّل منظره في المرآة ..
هل يخلعها
لئلا تفسد عليه نفسه وتظهر ما خفي من
علّاتها ؟ من أين خرج ذاك الأَنِفُ المستكبر
فجأة ؟ لم يعتد رؤيته من قبل !
هل تراها
تتخفى في دواخلنا نفوس كثيرة يخيّل إلينا
أنها نفس واحدة ؟ وأي واحدة نكون نحن على
وجه التأكيد ؟ ربما نكون تارة ما نحلم أن
نكون ومرّة أخرى ما نجهد أنفسنا أن نكونه
, بينما يتراءى لنا أحيانا
مانحن عليه أصلا في حقيقة الأمر .
وأنىّ لنا أن نعرف من نحن حقاً
؟
نفض رأسه
كعصفور ابتل جنحاه تحت المطر , لن
يغرق نفسه في دوّامة السفسطة تلك .
أوثق عرى
الأزرار , حمل أوراقه
وانطلق ميمّما فكره شطر العمل الذي ينتظره
.
رمقَ المرآة
بنظرة أخيرة وهو يتعجل الخطى , تبسم
لنفسه على عجل , يمكنه أن
يراها جيّدا ...
ليست هناك تعليقات :