ادريس الجرماطي\ المعرب
صرخة في المجهول...
... كلما توالت خطى الجياد استباقها، وانساقت رؤوسها متعالية القمم، إلا واشتد الحر وتحركت الآهات نحو اختراق السماء، وتجبرت الكلمات، كأن بسيدتان تغرسان أحلاما توداها حقيقة تكشف الستار عن خيالهما المنسوج، مؤمنتين بأن في القصيدة فرشاة ترسم الكلمات، وفي الغد البعيد سوف تقرأ السنين عبر الخطوط المحبوكة أن لا استحالة في الخيال، ودوافع أخرى يجعلها الاحتراق مدفوعة اللفظ، يبرز كيانه الآتي، مهما يطول الزمن قاصدا تعابيره المغايرة، لأناس يسكنهم خرير التباكي صانعا من الأحلام غدقا لا يمت للحرية بأية صلة، وفي تلك الأزمنة بشر كثير، يموت سهوا في الطرقات، ينسى بجوعه الداخلي أحيانا عن ذاته من تكون...!
فلا سبيل غير التقاط الكلمات لبناء يحمل من الاستعارات منعرجات، لا يثقنها إلا ربان من يرى الهنالك من وراء الطبيعة، وكأن الذاتين ابتلعهما علم الاستبصار والتخاطر، وغيرها من العلوم التي تستحضر قوى الاحتراق الذي لا يقبله العقل، لكنه يفرض تلابيبه بحجج دامغة تغيب عن العقل السطحي، وتنبش في ركح السنابل الحديدية، وكمن يلتهم جمرات النار، يقصد في ألاعيبه تشنيف الرؤى، وتكبيل العقل في جحود اللا عقل، والعوالم تستفيض بقدرتها على الترفع عن هذا العالم الذي بات لا يعني أي شيء...
صورة تبدو من خلالها السيدتان كأنهما يلامسان سماء الغياب، إذ تفضل جميع الركب وكل من في القافلة؛ وكأنه غير موجود داخل الإطار، لكن عن أي إطار يتحدثان كونهما مختلفتين لا عوالم يأخذ بأفكارهما..!. لأن الحضور فيهما غائب بقسوة حضور لا يعني بدوره أي ترتيب، أجساد فضلت الترقب والحراسة والتصدي لأي غبار يفسد كنه الغرابة التي تبني في الذاتين موضوعهما الاستثنائي، وبمدلولات مقصودة تنهك الحواجز التي تغلق أفق نظرتيهما؛ حالما يتبدد الغمام حول سمو الأفكار وتجاوز سطوح السماء تقربا إلى صهارة العدم، ووصولا إلى لغة الزمن المبتغى، والذي يترجى تخليق الجدلية حول ما يمكن أن يكون احتمالا موثوقا ينتظر الكيان..
نطقت السيدة الأولى محمرة الوجه متوترة كأنها سكن مجدوب، لا يدرك في نظرته اللحظة بأنه مختلف عما يجري في بساط عبثية العادة والتخلف والتسابق نحو إطفاء الجوع وإسكات الأيتام، فقدانا منهم لحنين أمهاتهم اللواتي أخذهن غدر التفكير:
على الكرسي صخب كأنه طرق حديدي، الغرفة مظلمة واليد لا تكف عن الطرق، وبعده صرخة لا يكاد ينتهي ارتدادها في السماء، وبعد الصوت، صوت آخر لسلاسل ينفد تخويفها إلى القلوب الولهانة، في الردهات أنين وحناجر تتمزق، تنفث فيها أوجاع الغفلة لحظتها تعبيرا لرفض لغة الأخطاء، وكأنه بالزمن ينتهي ليعود مخاصما لذاكرة المخطئين على الأرض، والبرق حينها يلج بضوئه، لينشر صفحة الغروب، سعيا لا مطريا كما عهدت العصور، بيد أنه يرى كل من يطوف على صحن الحياة أن لا بد من تفكيك ألغاز يحملها أحدهم في الكون، ليبصر في متاهاته أرواح تختنق بفعل صراصير وخفافيش وجيف مدفوعة إلى المغامرة والمقامرة بالكيان البشري، واستحضار اليد للألغام تزكية لمواقفها المخجلة، وترك الباقين عرضة للانتظار، والبحث عن خيوط عنكبوت يكره النمو...
تعالت في السماء صرخات الجياد، احساسا منها بأن التخليق عدوانية، وأن أي تفكير لا يستطيع صياغة هذا المحكي المجهول، وأن الغرفة المظلمة فضاء لغوي يكرس همس المقهورين وتركيب سم الاشتهاء للمعوزين في الأرض، وصناعة الموت المؤقت في الأبدية، بل وارهاق تأكد للجياد بأن السيدة التي تحكي قد أوصلت نبرات استيعابها للمستقبل قوة وإصغاء للسيدة الثانية، التي نسيت كل شيء لحظتها لأنها تخاف من المجهول، والجياد مازالت تصرخ، والقافلة تسير، والقمم تتعالى صمودا، والتاريخ سيسجل بعبقريته كل شيء...
ليست هناك تعليقات :