ادريس الجرماطي- المغرب
وجوه مختلفة...
الفراشة مازالت تسترسل في السماء، غير خائفة وغير مستحضرة لأي كيان يمكنه أن ينتزع منها حرية الطيران...
السيدة تلك المنغمسة في تحليل تفاصيل الوجوه المختلفة، وجوه متورطة، ووجوه عابسة ينقصها فضاء السرد تقصيا لما أحرق أجواف الجوارح في كنه الردهات الحياتية المظلمة، تتملى التفاصيل بكل دقة، طفلتها الذكية تجمع الأتربة بيديها الصغيرتين وتبللها بالماء قرب جدول ماء ساقية تعبر قلب المزرعة، وتتابع في حلم الأجنحة كما لو صارت مثل الفراشة المنسابة بين كتل الغيم ناسية جراح الأرض...
في الأرض طبعا ضباع وأسود وقنافذ، ووجوه كثيرة مختلفة، وجوه مكفهرة عابسة، ووجوه لم يلقنها الزمن دروسه لأنها محتمية بالخدعة والألم والجريمة المختلقة، أما آخر الوجوه هي تلك التي تنكمش وفق مبادئها التي تجد نفسها أحيانا موضوع الشفقة وانتظار الاستمتاع بمواقف الآخر، الذي قد يكون وجه ثعلب ماكر...
غابت الفراشة بعيدا، بينما الطين يختمر متعجنا بين الأنامل الصغيرة، كأنها تستعد لبناء دولة صغيرة تسكن دواخلها، تراها في خيالها كما رأتها ذات سفر في أحلام الصبا، السيدة هنالك تحاول تغيير لغة البناء، وتحويل نظرة الطفلة إلى ما يساور ذهنها، لحظتها فكرت بذكائها أن تشرك الصبية في لعبتها علها تبني وجوها بشرية من الطين، كما تراها أيضا في من حولها من الخدم وسكان القرى المجاورة، وكذا في الأقنعة التي خلقها خيالها عن الأساطير التي تسكنها منذ أن كانت مثل الابنة الطموحة التي لا يعنيها البشر، كونه مبعد بقوة الأم وسلطة أسوار المزرعة والجبال العالية...
رهافة الطفلة جعلها مستغربة لما ستود السيدة اختلاقه من مركبات طبيعية بسيطة، أصلها الماء والتراب، دون أن تتوغل في مفهوم الإنسان ككينونة أصلها الطين وكثير من الماء، هذا الكائن العشوائي الاعتباطي، ودون أن تتخيل اللغز الذي يساور تلابيب الذاكرة في أنثى تعير الاهتمام للحياة في الوجوه، وللوجوه في الحياة أيضا، تلك التقاسيم التي تفكر من خلالها في التبعثر، والانزياح عن المنظومة الانسانية. السيدة تلامس الجروح بلغة الطين ، ذلك السواد المختلط بلواعج يتداخل بعضها بالبعض، لتكون هكذا الذي يسوق العجلة نحو أفكاره ومعارج رؤاه، ليكون هدفها رؤية العديد من الأفكار تعلو رؤوسها المتخيلة في بهاء روحي عميق، ترسم ذلك وفق فلسفة تعني بشؤون الإنسان، وهو يخوض حربا ضد نفسه، وضد غيره في حوارية أساسها الآلة البشرية، وهي مدرسة تغرس في النفوس صورا للجماجم والأعضاء المتناثرة بفعل العقل اللا عقل...
العجينة الطينية تأخذ طريقها لتصير في السيدة، بعد استسلام فطري من الطفلة، عجينا يختمر ليصير وجوها وذواتا مختلفة، تراكيب تمردية، ونفوس لا تؤمن إلا بالعنصرية وتكبيل الرؤى، ووجوه تبحث عن الخبز في ركن مهجور، لا قيمة للآلة البشرية في وجداناتها البسيطة، مغفلة غير مستوعبة للغة الرأسمال المهيمن، وتخليق الجرع ضد الإنسانية، مقام تلك الوجوه، لا شيء سوى التفكير في ردع النفس وتطبيق التوازن على دفوف العيش ليس إلا، غير مراعية لآلات الترقب عن بعد، يجعلها ممسوحة الوجود، حالما تود التفكير أو الخروج من القوقعة الصلبة المصنوعة ضد الأيتام والرعيل الكادح، السيدة محتارة في ذلك التخليق الوجودي الذي جعلها تفكر في تبعثر التربة أحيانا، وتنتهي من أفكارها السوريالية الغائرة، ولكن اصراراها بوجود خيالي، لا يمنعها من إعادة البسط للوجوه، محاولة جعلها دون أحاسيس علها تفلح في مسايرة الكون تحت ظلال شمس، قد تجعلها بشقوق فوضوية التركيب، ذات صراخ في وجه هذا الكون، الذي لم يبرأ بعد من جراحات، سوء التدبير وانعدام رخصة التوجيه الفكري للإنسانية، بعيدا عن ظلاميته وسوداويته، وتخليق خيالي لوجوه تحب الكينونة والحياة، وتعود الفراشة إلى زهرها الموعود، والطفلة مشدوهة الافكار، ترى في الطفولة أملا غير هذا...
ليست هناك تعليقات :