حسن بنعبدالله / تونس
الصُّورَةُ الشّعرِيةُ والإِيحَاءْ .. فِي تجرِبة الأَدِيبَة التُّونُسِيَة " هُدَى كرِيد " ..
يُعدّ مصطلح الصورة الشعريّة من الركائز الأساسيّة من بين المصطلحات التي تُبنى عليها دراسة النصّ الشعريّ الحديث ، وتُعدّ الأداة الأوضح التي تقودنا إلى استكشاف تجربة الشاعر، وإدراك أبعادها والحاوية التي تستوعب تلك التجربة ، وتوضحها عن طريق السموّ باللغة ، وتحشيد طاقات الكلمة .. فالصورة تتكوّن في مخيّلة الشاعر مع تبلوُر النصّ الشعريّ ذاته ، وليست شكلًا منفصلًا عنه ..
وعليه ، فإنّ جماليّة الشعر وقوّة دلالاته تتمثّل في الإيحاء عن طريق الصورالشعريّة لا في التصريح بالأفكار المجرّدة ولا المبالغة في وصفها، تلك التي تجعل المشاعر، والأحاسيس أقرب إلى التعميم والتجريد منها إلى التصوير والتخصيص، ومن ثَمَّ كانت للصورة أهمّيّة خاصّة ...
وتُعدّ الصورة الشعريّة السّمة الأسلوبيّة التي يتميّز بها شاعر من آخر لأنّها انعكاس حتميّ لانفعالاته النفسيّة التي يكون عليها، وهي الوسيط الأوضح الذي يستكشف من خلاله تجربته الفنّيّة ويتفهّمها ليمنحها القيمة والنظام .. فهي التّركيبة الفنّيّة التي تحقّق التّوازن بين المستوى المطلوب والمُنجز، أو المتاح تفاوتًا بين التقريريّة والإيحاء الفنّيّ وهي الفاصل بين الظاهر والباطن، “وتظلُّ الصّورة هي عنصر العناصر في الشعر، والمحكّ الأوّل الذي تُعرف به جودة الشاعر، وعمقه، وأصالته .
ومن المميّزاتِ الحاصلةِ التي رسخت في ذهني بعد قراءات متأنية للعديد من القصائد المنشورة للأديبة التونسية هدى كريد ميزة التركيز على الصورة التي تُثبّتُ المضمون الفطري أو الوجداني الذي تختاره الشاعرة في حالة وعيٍ وفي مناخ هي التي تُحيطُه بها من داخل اللغة فتختار الكلمات بدقّة وتلتزم الوصف الدقيق والأنيق وتَعطي لكل حالة مساحتها أثناء البناء الشيء الذي يفرضُ قيامة النّصّ على أسس تمكنه من الوقوف في ذهن واهتمام القرّاء عموما والناقد خصوصا .. وهي بحرفية وانتباه تُجيدُ التطريزمن داخل الزخارف ومن وراء الخيال وفي مسار الخطوط بين السيرة والمحسوس ، وبين الضرورة والالتباس لعلّها تحقّق التّمكُّنَ وهي غاية كلّ مبدعٍ يخوض عمر البوح وغمار التجربة : من قصيدتها " خُطُوكٌ بِلاَ اسْتِوَاء " ..
يا أيّها الطّين المعفّر
حذار لا تشكّل الهباء
يا صوت مردة آبقة من قماقم سليمان
كفّ عن الوساوس والهذر
نذرت لنفسي رهيف صمت
لو أحرّر كلّ تفاصيلي منّي ومنك
لو يبرق ثغري ويلفظ أصداءك الفارغات
يغرورق قلبي طفلا شريدا
أضاعه الأبد
يتمدّد الرّصيف
فوق آخر شهقة
كم شحذتُ الأغاني للعابرين على ضفافي
كم أولمتُ من جسدي وجعتُ
على منحدر أملس
أكتبني نجوى وصدقا ويقين كفر
بشرعة القهر
أمنح الخطايا للصّبّار
يلوكها على مضض
حُقّ لي أن ارتشف كأس السّماء
وأتوسّد راحة النّجوم
وأنام ملء التّعب
وفي الأسطر تتمكّن الصُّورةُ الشعرية من دورها لكي تحقّق الإيحاء وتفرض تجاوز الظواهر من المعاني والعبورإلى الحقيقة الباطنيّة ، وذلك من خلال تشبيك اللّغة الشعريّة المؤثّرة بعلاقات تنشئتِها بين المفردات بتجاوزها بنية التعبير بتركيباتها الأفقيّة من خلال وسائل بيانيّة متنوّعة تُولِّد ما يسمّى بالصورة الشعريّة التي تكتسب طاقتها الإيحائيّة من تساميها وجاذبيّة تراكيبها ..
فالصورة الشعريّة في قصيدة " هدى كريد " مقروءةُ من خلال اللّغة الشعريّة التي تمتلكها الشاعربوساطة التراكيب النحويّة بالدرجة الأولى وتمكّنها ثقافيا من أواصر العلاقة بين مشروع الكتابة والعلم والمعرفة وهي كما نعلم " ناقدة بامتياز " وهذه الصفة والتجربة تمنحها البراهين كيف تبدأ وأين تنتهي فتختار عناوينها بإدراك لما للعنوان من أهمية يُهملها البعض وفي ظاهرة أنا أتابعها ــ بث العديد من النصوص لاتحمل عناوينها وهذا يصدر حتّى من كبار الأدباء في وطننا العربي وهي من النقائص ومن العيوب ــ وفي التراث العربي ثمة ما يشير إلى اعتبار العنوان هو السِّمة والعلاقة والأثر الذي يستدل به على الشيء، ويشترك في هذا ما نزل من السماء وحيًا، وما كان في الأرض وضعًا، وهناك من يعتبر أن العنوان هو بداية كل شيء، وأن ما من أثر مهم إلا وله عنوان يدل عليه .. ولكونه يؤسس تيمة أو دلالة استعارية أو مجازية تفضي إلى متن النص الشعري، بل إن هناك من يعتبرالعنوان نتيجة من نتائج النص أو محصّلة من محصّلات توجه الشاعر.. وأعتبرُ شخصيا أن مكانة العنوان في رأس القصيدة كمفتاح أو نافذة تفضي إلى بنائية القصيدة وشحنتها العاطفية واعتبارالعنوان في القصيدة على وجه الخصوص هو بمثابة ركن استراتيجي لا يمكن التخلي عنه ،وهو بمثابة الإسم كما يحمل البشرأسماءهم وللتمييز بين فلان وفلان، حيث نميز بين قصيدة وأخرى من خلال عنوانها وهكذا ...
تعتعني الحلمُ
على الصّدر الغضّ
غبت عن نهار ينزف
في قبر تهجّى الحزن
نسي أن يقدّم الأسى
للماء السّاهر
على ضفاف عاشق
يتلو على ليلاه
تراتيل ضلاله وهداه ..
حين تداهمني شهقة الرّيح
أتوكّأ على عكّاز أعوج
أسير مقرورا
إلى وهج عينيك
محموما
إلى ثلج جيدك
مغامرا إلى المجهول
تائقا الى وطن فيك
أنا هارب
من الأطياف السّوداء
من تقاطر الموت فينا
من شتائنا الدّامي
من نزيف الخريف…
يزغرد دمي
حين ألقاك
وتتمدّد الفرحة
فوق شطآن حبّنا المخمليّ..
تيمّنا بالعشّاق الغابرين
ويمرّ الغمام
ريّان فوق
رفات القنوط
وكلّ الألوان الباهتة
في خزانة الذّكريات
لا أعرف حينها
كم أحلاما كوّرت
وكم نجوما نثرت
وهل انتهيت الليلة
أم للتوّ ولدت ..
ــ وتختلف مفاهيم الصورة الشعريّة وتتعدّد بتعدّد أزمنتها وظروفها فالمفهوم الذي ساد قديمًا كان قائمًا على روابط التشابه بين التصوير والشعر،والخيال،والرسم،والعناية بالأشكال البلاغيّة للصورة :
كالتشبيه، والاستعارة، والكناية .. وهم في قاموس شاعرتنا هدى كريد مكسبٌ مدروسٌ وموثوقٌ به يساهمُ في رقيّ الاختياروتحقيق الاعتبار كلَما وجدت القراءة فرصتها أومن خلال الاستماع عبر الفيديوهات المعتمدة حيث يتشابك الكلامُ مع فنّ الإلقاء وهي تُجيده وفي صوتها إضافة مهمّة يترك الأثر والانطباع .. وفي السّرد الذي تكتبه هدى كريد لا يبتعد الشعر فالعلاقة متجذّرة ولا تكادُ تغيب .. ولها حضورٌ بيِّنٌ في قصيدتها المميّزة " أكابيلا "
أعدتني بسمتك
أغراني وجهك
بمعسول الرؤى
جهدت أن أكون أنا
أحبّ اغفاءة الموسيقي
فوق عينيك
كلّ الألوان الهاربة منك
حطّت على قلبي
زغاريد تصدح
داخل أوردتي
جهدت أن أكون أنا
ألملم تفاصيل البياض والسواد
على محمل لوحة الأبديّة
أحبّ كل مالا يسعه وطن
حتّى لا يغيض رمل حلما
واحدا يرتعش من الظّلّ
تلك المنارات ما أحلاها
لولا أشباح المنافي
وجماجم المقهورين
لو أصمّ عن كلّ وجع
لو أذهل عن كلّ شيء إلّاك
طيافك الهاربة
بخور الليلة المقمرة
" أكابيلا " ينشدها الحالمون
ــ ونعلم أنّ العنوان الذي اختارته الشاعرة "هدى كريد " من مخزونها المعرفي يحيل إلى مرجعيتين :
ـ الأولى "رواية للكاتبة خولة حواسنية ـ من سوق هراس الجزائر .. وهي روايتها الأولى في دلالة واضحة لارتباط الشعري بالسّردي ــ
ـ والثانية : تلك الغنائية المعتمدة في الطقوس التعبّدية في الكنائس التي تعتمد الأصوات المنسجمة وبدون استعمال الآلات الموسيقية عودًا إلى الأصوات الطبيعية في كلّ الكون وهذ ا الاختيار يضع القارئ أمام احتمالات عدة لقراءة النص من العنوان. العنوان الذي يشكل عتبة أولى وأساسية قد تغري المتلقي، وقد تجعل لهفته للقراءة تنتهي قبل أن تبدأ كما أشرنا سابق ...
وأختمُ بهذه الصّور التي تُعطي الانطباع وتُلخّص محتوى المقاربة وتلتحق بالعنوان المطروح اختيارا منّي دون الحصر فالمجالات واسعة أمام النقد والنّقاد للخوض بعلمية في غمار ما تكبت شاعرتنا الأنيقة هدى كريد :
ليست هناك تعليقات :