د. الشَّاعر إحسان الخوري
الخَريفُ الثَّاني
بقلم: د. الشَّاعر إحسان الخوري
تَهادىٰ المَسَاءُ في ضَبابِ الغَسَقِ
امتزجَ بآخرِ الأشعَّةِ الشَّاحِبَةِ
تارِكاً الغيمَ يَجولُ علىٰ الصَّنَوبَرِ
مثلَ زورقٍ ضائعٍ يملأُهُ الضَّبابُ
وأنفاسهُ العُذريَّة ذاتُ الطَّلِّ الوَديدِ
تَنشُرُ الضَّوعَ عَبْرَ تَرَنُّحِه الرَّهيفِ
وريحٌ جَوفُها بِلا جُوعٍ زَحَفتْ
هيَ ترتدي نسيجاً منَ الفَضْفاضِ
يتمزَّقُ معَ كلِّ اجتيازٍ وحفيفٍ
وراحَتْ تتبعُ الغيمَ إلىٰ الجِبالِ
أوراقُ الصَّنوبرِ كانَتْ في توثُّبٍ
تُصفِّقُ معَ الرِّيحِ القادمةِ
ثمَّ فجأةً غَفَتْ بسكينةٍ وارتياحٍ
لا حيلةَ لها سوىٰ اغترافُ الغَسَقِ
وتقاسُمُ النُّبوءاتِ معَ المَساءِ
وأنا كعادَتي مع أشجارِ الصَّنَوبَرِ
وولعي في الغابةِ المُجاورةِ
تَسَلَّلتُ بين نُتَفِ الظلامِ المُختَبِئَةِ
أطلقْتُ حواسِّيَ للرِّيحِ
وددْتُ الإمسَاكَ بالرِّيحِ والغيمِ
لترتيبِ الحنينِ مع الشَّوقِ
والسَّفرِ إلىٰ الأخيلةِ المُمكِنَةِ
فرأيْتُها خلفَ النَّافذةِ المُطِلَّةِ
تَغلي قهوتَها بِسحرِ العرَّافاتِ
وثِمارُها تتلألأُ بِتَرَفِ الأُنوثةِ
تَفصِلها سِتارةٌ منَ الحريرِ
ألوانُها تُغازلُ تَفاصِيلَ الجَسَدِ
وهو يتمايل على لحنِ الحوريَّاتِ
جَسَدُها ذاكَ المَشْغولُ منَ الأُنوثةِ
كانَ مُلتَهِباً يتأجَّجُ بالعِشقِ
ويتنفَّسُهُ الليلُ خَيالا ًخَيالا ً
مَلاحَةُ روحِها تَفيضُ
تملأُ عشَرةَ نِساءٍ بالأُنوثةِ
وتَقتُلُ وَجْدَ آلافِ الرِّجالِ
فينفُضُني جَسَدُ الوقتِ
لمْ أُبالي بالانْتِظارِ
إنَّها رائحةُ البُنِّ المُغادِرِ
أُشعلُ سيجاري في وجهِ المَسَاءِ
َيتلبَّسُني عَبَق جَسَدِها المَمزوجِ بالبُنِّ
يُشبِعُ روحيَ الوَحيدةَ المُتألِمة
فأفتقِدُ لوعةَ الاشتياقِ
أفتقدُ طعمَ شَفَتَيها
نكهةُ جيدها الحَرونِ
وهو يُفقدُني قُدرَةَ الحَواسِّ
لَكَمْ أشتاقُها
لَكَم أرغبُ أن ألمسَ يَدَيْها
أُقدِّمَ لها رُزمةَ أشواقيَ المُحتَدِمَةِ
أنظُرُها بِصُفوفٍ النَّظَراتِ الصَّامِتاتِ
وعينايَ تَتَعَمشَقُ بِبُطءٍ
إلىٰ شامِخاتِ جَسَدِها الجَموحِ
لتَستَشعِرَ النَّشوةَ المَربوطةَ بالذَّاكرةِ
فَتَخيَّلتُ شَفَتَيها تَسألُني
أينَ سَتكونُ عندَ الخريفِ الثَّاني ؟
قلْتُ لماذا ؟
قالَتْ سيكونُ عيدَ ميلادي
تَمالكتُ دَمعَتي
ابتَعَدْتُ
وبكَيْتُ دهراً من مُرِّ البُكاءِ
ليست هناك تعليقات :